مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الإنسان كائن قانوني منظم

الإنسان كائن قانوني منظم

بقلم: عبدالجبار بهم
       من أجل ثقافة قانونية تستهدف الإنسان في كينونته الفاعلة والمنفعلة ضمن تفاعلات يومية تتطلب الاستجابة لرغبات الذات واحترام رغبات الجماعة في نفس الآن.
     من أجل كينونة إنسانية ناجعة تحول القانون من عالم الوعي الافتراضي إلى عالم الواقع الملموس، فيصبح القانون ثقافة السلوك لا ثقافة المدرجات الجامعية ومجالس الفقهاء.  
   من أجل تجاوز أشكال الاستغلال الممنهج التي يمارسها الإنسان على وعيه القانوني؛ فيأخذ منه ما يشاء ويهمل ما يشاء، ينشط هذا الوعي تارة ويجمده تارة أخرى حسب مقتضيات مصلحته وما يعتقده من ضرورات الحياة.
     من أجل إنسان منسجم مع نفسه ومتناغم مع محيطه الكوني، ستعمل هذه المقالة على تأكيد أن الإنسان كائن قانوني منظم، وأن راهينته الذي تبدو أكثر تطورا من ماضويته - بالرغم مما يكتنفها من فوضى - ليست إلا مرحلة انتقالية وحالة من حالات  الصيرورة المتوالية في اتجاه إنتاج كائن قانوني منظم.
     فالإنسان ليس فقط كائنا اجتماعيا كما قيل، وإن كان ميوله الاجتماعي يجعله - أحيانا - كائنا متسلطا وعدونيا شرسا يضحي بالجميع من أجل نفسه، وهو ليس فقط كائنا منطقيا كما قيل أيضا، وإن كان ميوله المنطقي يجعله  - أحيانا أخرى - كائنا أنانيا ومتعصبا لمنطقه الخاص،  فهو في عمومه وكلياته ليس اجتماعيا من غير تسلط وليس منطقيا من غير تعصب وإن كان هو كل ذلك في جزيئاته وفي تفاصيل لحظاته اليومية؛ اجتماعي وانطوائي منطقي ومزاجي، بيد أن ما يمكن الجزم به هو أن الإنسان في محض كلياته وفي جميع مآلاته ومصائره هو كائن قانوني منظم؛
    الإنسان كائن قانوني منظم من حيث أنه أبدع في بدائياته الأولى قانونا تنظيميا سميناه نحن فيما بعد " قانون الغاب"، ونظم حياته وفق هذا القانون مع ما كان ينطوي عليه من مظاهر التسلط والصلف، وهيمنة القوي على الضعيف، واستلاب القلة من طرف الكثرة واحتواء الفرد من طرف الجماعة، فكان- والحالة تلك - قانونا همجيا واستعباديا، قانونا عكس الفطرة الانسانية في مراحل جنينيتها بكل ما جبلت عليه من توجسس ودهشة ونزوع عدواني، لكنه كان قانونا عبر الإنسان البدائي به ومن خلاله عن كينونته القانونية ضمن شروطها التاريخية التي طويت في أعماق الماضي،  ولفظها إنسان الحاضر إلى درجة جعلته ينظر للسلوكات المماثلة لها على أنها سلوكات لا إنسانية ولا قانونية ولا أخلاقية، بل جعلته يتخذ إجراءات زجرية ورادعة لحماية المجتمعات من شؤمها وويلاتها، لكن ينبغي أن نعترف أن الفضل يرجع إلى تلك الشروط من حيث أنها أبانت على أن الإنسان بالرغم من بدائيته في غابر العصور كان كائنا قانونيا منظما، استطاع تنظيم نفسه بحسب معطياته آنذاك وبحسب ما أوتي من مواهب سليقية، كل ذلك من منطلق الاستجابة التلقائية لنوزاعه الذاتية وميوله الغريزية في علاقتها مع تصوراته للكون وللموضوعات المحيطة به في عالمه الملموس.
   وهو كائن قانوني منظم لأنه خلق في مدنياته المتعاقبة قانون المنطق العقلاني المجرد، ونظم حياته وفق هذا المنطق في جميع المجالات بكل ما يحمله من مظاهر مؤسسة على الجدل والتدافع وتأويل الفعل ونقيضه في نفس الآن، كل ذلك حرصا على المصالح ودرء للمفاسد بحسب ما يعتقد أنها مصالح يتوجب استجلابها أو مفاسد يتوجب درؤها، وبحسب ما يعتقد أنها حقوق وحريات يتوجب تكريسها وصيانتها، إلا أنه في نهاية المطاف كان كل ذلك انتصارا للكائن القانوني المنظم في الإنسان، لأنه كائن قانوني منظم في طبيعته السيكولوجية والفيزيقية، يولد ويترعرع وينمو وفق قانون منظم، يأكل ويشرب ويتنفس وفق قانون منظم، يشب ويكبر ويشيخ ويموت وفق قانون منظم، يتوالد ويتكاثر فتصير منه الأصول والفصول والشعوب والقبائل والأمم  وفق قانون منظم،،، فالدم يتدفق في عروقه وفق قانون منظم، والسمع والبصر واللسان والقلب والعقل كل ذلك يشتغل فيه وبه وفق قانون منظم، وهو في كل ذلك بنية مركبة من قوانين متداخلة ومتكاملة أودعها فيه الله بديع السماوات والأرض.         فالإنسان ليس صانعا للقانون والنظام بل هو نفسه صناعة للقانون والنظام، وما الفوضى التي تغمره والصراع الذي يطبع حياته إلا انعكاس للتناقض الذي يعانيه بين كينونته القانونية التي جبل عليها، وبين سلوكه اللاقانوني في حياته اليومية، إلا أنه - وهذا هو المهم - سيصل حتما إلى الانسجام والتناغم مع القانون الكوني المنظم للحياة والناس.
     لذلك فالإنسان كائن قانوني منظم في حركته وسكونه، وكائن قانوني منظم في عبثيته وفوضويته؛ فالحركة والسكون والعبث والفوضى في الإنسان كلها معادلات كيميائية تتفاعل فيها شبكة من القواعد والنظم الموجهة للذات الإنسانية في كينونتها الموضوعية، وبالتالي فكل ما يصدر عن هذا الكائن في قصده أو تلقائيته في نومه أو يقظته، إنما هو تحت تأثير قانون ونظام صيغ وطبع بكيفية خاصة. وكون الإنسان ميالا إلى المنطق فهو كذلك إذا غالبه قانون المنطق وكونه ميالا إلى الاجتماع فهو كذلك إذا غالبه قانونه وهكذا، وإنما مسؤوليته في الاختيار وجزاؤه يكون بحسب ترقيه نحو الانسجام المطلق مع كليات القانون الطبيعي ومبادئه العامة، وما عدا ذلك من الحالات التي تعتريه بين التغول والتمدن إنما هي مجرد عوارض مرحلية ودرجات في سلم التوحد الكوني، حيث يتحقق النظام السرمدي بين عالم غاية في التنظيم وكائن قانوني منظم هو الانسان. 
    فلماذا لا يكون الإنسان منسجما مع ذاته في قوانينها ونظمها التي تسمو به إلى أن يكون منسجما مع قوانين الطبيعة الكونية ونظمها التي يعتبر هو جزؤها الأرقى؟ لماذا لا يكون سلوكه مطبوعا بالثقافة القانونية في تعامله مع نفسه ومع الآخرين وفي قناعته واعتقاده؟، ألا يمكن القول أنه بدون ثقافة قانونية تترجمها حركاتنا وسكناتنا بصيغة منسجمة مع الذات والكون سنبقى ظلال فارغة لكائن ميتافيزي لم ير النور بعد..؟

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية