مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المرجو من زوارنا الأعزاء مشاركتنا الرأي بالنقد والتوجيه لإثراء النقاش من أجل تنمية ثقافتنا القانونية والأدبية والفنية.

الإشعاع.. شهادة الأمل والعمل


شهادة الأمل والعمل
عبدالجبار بهم أثناء إلقاء شهادات التكريم



تقديم لابد منه:

     بدعوة كريمة من جمعية محترف الإشعاع للتنمية الثقافية قصد حضور ملتقاها الدولي في نسخته الحادية عشرة، يهزني الشوق والحنين إلى رحاب الفن والأدب، ينتزعني من حمأة المتاعب المهنية الموغلة في النص القانوني، ليعرج بي إلى عوالم الخيال الأدبي، سيما وأن شرط المناسبة ـ كما يقول الفقهاء ـ قائم في محور الدورة؛ النص الأدبي: أسئلة ومقاربات في التلقي، محور اتخذ من النص الأدبي فضاء لملامسة إشكالية الإبداع الأدبي في علاقاته المتنوعة والمتداخلة بين الذات والآخر، وترجمه منظمو الدورة فعليا من خلال تكريم ناجح، مزج بين رموز مبدعة شقت درب التألق في الأدب والفن والعمل الجمعوي.
      وأنا في طريقي إلى مدينة الإشعاع \ اليوسفية تلبية لنداء العشق الجمعوي، يوم الخامس والعشرين من شهر مارس، أكابد تعنت سيارة أبت إلا أن تتوقف أكثر من مرة لعطل طارئ، يفاجئني رئيس الجمعية أخي السيد عبدالرحيم الثقفي بمهمة تقديم شهادة في حق رفيقي في الهم المسرحي، الأستاذ محمد زكي بوكرين دون أن أكون مؤهلا نفسيا وذهنيا لتحمل عبء تكليفها وتشريفها، فاضطررت لارتجالها بين الحضور على عجل، لتأتي  بائسة على نحو لم يقنعني؛ يلفها الاختزال المخل واللاتركيز الفاضح في حفل تاريخي أشعرني بالمرارة، وجعلني أغبط أولئك الذين يجيدون فن الاعتذار والتملص، عندما تحاصرهم ظروف استثنائية، تعرقل تواجدهم بشكل فاعل يستحق ما حظيت به من تصفيق محترم. بيد أن شعوري بالواجب إزاء تظاهرات إشعاعية ينهض بها ناشطون جمعويون بمديني الزاخرة بالمثقفين والمبدعين، حتم علي ارتجال شهادات أحاول الآن صياغتها من جديد، احتراما للدعوة التي تلقيتها،

وتقديرا لقيمة الاحتفاء بخيرة وجوه الأدب والفن والعمل الجمعوي من أبناء مدينتي المناضلة.                           
أولا: استهلال                               
بسم الله الرحمن الرحيم                    
وبه نستعين                                  
       تحية للحضور الكريم، أهنئ جمعية محترف الإشعاع على وفائها والتزامها بالتحضير للدورة في موعدها المحدد بشهر مارس الجميل، الذي تتفتق فيه قرائح الإبداع كما تتفتق زهور فصله الربيعي، أرحب بنوارس الأحلام \عشاق الهمس الشاعري؛ بمدينتنا  الصغيرة وبوطننا الكبير، أوطي لكم الأرض سهلا وأنثرها أهلا لضيوف كرام، وافدين من جهات العالم الأربع، يأبى هيامهم بالكلمة وبالعمل الجمعوي وبالإبداع المسرحي، إلا أن يشاركوا جمعية محترف الإشعاع للتنمية والثقافة عرسها الأزلي في نسخته الحادية عشرة، وأشكر السلطات المحلية بإقليمنا الفتي ومجلسه البلدي ومجموعة المكتب الشريف للفوسفاط بمدينة الهمم والسواعد والعقول المبدعة، أشكركم جميعا على إسهامكم المتواصل في الدفع بحركة الفعل الثقافي في اتجاه التألق والحضور وطنيا ودوليا ترسيخا لفلسفة التنمية المندمجة والشاملة، التي تعتبر العمل الجمعوي مركزيا ضمن أوراشها، ولا أنسى الترحاب بمنتدى كلمة الذي أشد على يديه بحرارة وهو يترحل بضيوفه الشعراء والمبدعين، ويتخذ من مدينة اليوسفية أهم محطة لقافلته الشعرية، فيزيد عرسها إشراقا وتنوعا ثقافيا بكل لغات العالم، تنوعا يكرس ثقافة الاعتراف بالآخر، ولا يعترف بثقافة الحدود.
       أيها الحضور الكريم، أملي أن أجد فيكم سعة صدر طافح بالرضا والقبول، وليعذرني الإخوة المنظمون على تجاوز الزمن المسموح به لشهادتي المرتجلة، وليترفق صاحبها الأستاذ محمد زكي بوكرين بعواطفي المتأججة، التي أشعرها تميل للإطناب لتشرك غيره فيما هو حق خالص له، مندفعة تحت وطأة اللقاء بكم، لقاء تأخر سنة كاملة ليتحقق من جديد في نفس التاريخ، ونفس المكان، ونفس السياق.
     فلتسمحوا لي أن أحيي رئيس جمعية محترف الإشعاع الأستاذ عبدالرحيم الثقفي واحدا من رموز رفاقي القدامى في الهم الجمعوي بهذه المدينة، تحية صادقة
بعض رموز الهم الجمعوي القدامى باليوسفية
على صموده المستميت، والتزامه باحترام موعد الدورة بالرغم من الإكراهات المادية والمعنوية واللوجستية، وقد واكبت إصراره على إنجاح اللقاء حتى آخر نفس من أنفاس التحضر، حين كان سعيدا مبتهجا، وهو يتلقى موافقة جازمة بالمحافظة على تقليد الدورة من قبل السيد الكاتب العام لعمالة اليوسفية، الذي يستحق منا نحن أبناء المدينة كل تقدير وامتنان، على تحمل عبئها الجمعوي \ التنموي والثقافي، والاستجابة لطموح أبنائها الإشعاعي، بالرغم من محدودية إمكانياتها البنوية، وبالرغم من تواضع قدراتها الاستعابية في احتضان دورة يغطي فعالياتها ضيوف وافدون من مختلف الدول.
 فتجمعنا اليوم دليل قوي لا مزايدة فيه على أن المدينة تحظى برجال شرفاء، أبانوا عن إرادة إدارية محلية قوية وصادقة، سواء من جهة السلطات المحلية أو من جهة الإدارة الشريفة للفوسفاط، إرادة تسعى لتلبية هواجس الطاقات المحلية في التنمية والنهوض الثقافي، ومشاركة العالم عشقها للسلم والسلام، وجنوحها إلى تبادل الخبرات والتجارب تجسيدا لثقافة الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية كما يقال، وما تفاني رئيس الجمعية في تحقيق حلم اللقاء وإصراره على إنجازه على وجه يشرفنا جميعا، بالرغم من ألم المعاناة وأرقها، إلا برهان ساطع على اعتناقه الفعلي لشعار الأمل والعمل الذي يردده حيثما حل وارتحل، وهو برهان عملي يؤكد إرادة قوية،  قال أبو الطيب المتنبي مادحا سيف الدولة الحمداني:

إذا نويت مضارعا مضى  ***  من قبل أن تلقى عليه الجوازم

     هذا الإصرار البالغ درجة الفعل بالنية، يترجمه حفاظ الجمعية على تكريس ثقافة الاعتراف باللآخر من خلال احتفائها بالطاقات المبدعة في المدينة وبمواهبها وفعالياتها الثقافية والفنية والجمعوية،
الشيء الذي يحمل على القول بأنه لو لم يكن من أنشطة هذه الجمعية واهتماماتها البرامجية على مدار السنة، إلا الانشغال بالآخر وبتكريمه والاحتفاء به، لكان ذلك كافيا لها في أن تحظى بالتقدير والاحترام، وأن يقدم لها الدعم المادي والمعنوي واللوجيستي اللامشروط، امتنانا لفلسفتها الأخلاقية والروحية، وعقيدتها الراسخة في انتشال مبدعين من مخالب النسيان، تقتلهم مرارة التهميش واللامبالاة عرقا عرقا، ويدفعهم صدود الناس من حولهم إلى الشك في قيمة ما يبدعون وجودة ما هم يصطنعون، إن استراتيجية الحراك الثقافي الذي تتبناه جمعية الإشعاع أداة لتفعيل قيمنا الأخلاقية طيلة مسارها المنجز إلى الآن، شكلت تمظهرا حقيقيا لفعل الذاكرة الجماعية في تجاوز ألم الاغتراب، وتعميق البعد اللامادي النفيس في الإنسان؛ من خلال إعادته إلى حظيرة الوجود المسئول، وضمان انخراطه في الجماعة، وإشراكه في همومها وطموحاتها التي بالتأكيد هي همومه وطموحاته، قبل أن يتجرد من مسؤوليتها تحت وطأة الحقد على من أقصوه وتنكروا لتضحياته وإبداعاته المعبرة عن أوضاعهم. ويكفي جمعية الإشعاع فخرا أن تكون حاضنة مخلصة للأدب والفن، وأن تجتهد كل سنة لتفتح  في قلب مدينتها الساكنة تحت رابية الصمت، نافذة على العالم الداخلي والخارجي المتدفق حياة وشعرا وأدبا من كل بقاع العالم؛                                  
من المغرب: القصاصون= المهدي ناقوس - الجلالي وساط ( اليوسفية ) -عبدالجليل العميري ( الشماعية ) - دامي عمر ( آسفي ) - عبدالعزيز بنار ( الجديدة ) - لطيفة باقة ( أكادير ) - الشريفة مريم بن بخثة ( الدار البيضاء) - ربيعة ريحان ( الرباط ) - عادل أوثنيل ( فاس )، والنقاد= عبدالحق الوردسي ( الشماعية ) - زكي محمد بوكرين ( اليوسفية ) - أحمد الجرطي وعبدالعزيز بنار ( الجديدة ) - محمد الداني ( الدار البيضاء ) - والشعراء = يوسف حكمي ومليكة فتح الاسلام وأحمد دحمون ومصطفى حنيفة وعبداللطيف بحيري ووعبداللوهاب السلمي وعبدالرحيم الثقفي وسعيد العساسي ( اليوسفية ) - يايبن عدنان ( مراكش ) - عبدالرحيم الخصار ( آسفي ) - امبارك الراجي ( الصويرة ) - سعيد الباز ( اكادير ) - نور الدين الزويتني ( الجديدة ) - فاطمة الزهراء بنيس ( تطوان ) - إكرام عبدي ( طنجة ) - امبارك وساط ( سلا ) - فاطمة برودي ( الرباط )،
 ومن خارج المغرب: الشعراء = عزة حسين ( مصر ) - سميرة عبيد ( قطر ) - حسين حبش ( كردستان سوريا ) - إيمان زياد فلسطين - أحمد الفلاحي ( اليمن ) - استريدو لامبي ( هولاندا ) - اطالا نورا و كلودين بيرتراند ( كندا ) - اطيلا بلازيس  ( رومانيا ) - روكسانا كريصواوكو ( البيرو ) - الفريدو فريسيا ( البرازيل )                                                                               
سفراء الكلمة والفــــــــــــــــــــن
                                    
سفراء الكلمة والفــــــــــــــــــــن
                                    
- زينكونيا زينكوني ( ايطاليا ) - ماريا دونيس فال ( كوبا ) - كامران هازار ( النرويج ) - كارلا كورياس ( السالفادور ) - ماريا فارازديل ( الدومينيكان ) - ميريام بيانشي ( النرويج )         
 - مادلين ميلان وإيريس ميراندا ( البورتوريكو ) - بيدرو انريكوز ( اسبانيا )- هيلال كاراحان ( تركيا ) - رولف دوبونبيرك ( سويسرا ).                                                                  
كل هؤلاء جميعا جاؤنا تحملهم الكلمات الحالمة على بساط الأدب والفن، يخترق الآفاق غير مكثرة أو منصاع لهواجس الايديلوجيا وديماغوجية المتكسبين، إنهم سفراء الجمال في رداء العشق الصوفي للبوح بآلآم العالم وآماله، يمتطون لغة السلم والود والحوار، لغة تحتج على انحدار عالمنا المعاصر إلى متاهة حضارة وحشية مادية شرسة، عالم تجرفه أبجدية العنف والعنف المضاد  صوب الانهيار والدمار..
      فهكذا حضور مكثف لمبدعي الأدب والفن، هو تجسيد واقعي لثقافة الحوار،  ثقافة الإيمان بواجب الإصغاء لما يريد الآخر قبل الإيمان بحقنا في إسماع الآخر ما نريد نحن، ثقافة التمرس على تمثل الذوات الأخرى داخل ذواتنا وفي أعماق وجداننا، لنحسن التعبير عن يقيننا بحتمية حق الآخر في الوجود، هذه هي ثقافة الاعتراف التي رسختها البشرية منذ أدركت أن الآخر فيزيقيا كان أو ميثافيزيا، ليس بالضرورة هو مصدر إزعاجنا ومنافستنا على الحق في الوجود، بل قد يكون مصدر قوتنا، التي منها نستلهم مفاتيح الإدراك الحقيقي لكينونتنا وغائيتنا، في حياة ملفوفة بالغموض والأسئلة الحارقة، هذه هي ثقافة الاعتراف التي تجذرت كثيمة مركزية في مختلف الحضارات على مر العصور؛ من بابل الآشورية إلى مصر الفرعونية، من صينية كونفوشيوس وبوذية الطاوية ووانج وي، إلى هندوسية الهند وكاليداسا وطاغور، ومن يونان هوميروس وهيسيود وإيسخيسلوس وسوفوكليس ويوربيدس إلى رومان ليفيوس أندرونيكوس وسينيكا وساتورا ، ومن فرس عبدالرحمن بن آدم الرودكي وأبي منصور الدقيقي الطوسي، إلى مشناه اليهود وإلى مسيحية دانتي أليغييري وجيوفاني بوكاتشو، وقبل ذلك وبعده جزيرة العرب والعالم الإسلامي الناهض على حكمة أبي سلمى، ومنتجات قواعد التواصل الإنساني والأخلاق النبيلة:

ـ " ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكومكم عند الله أتقاكم ". 
ـ " ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن".
   كل هذه المحطات الأنطلوجية للفكر الإنساني ظل فيها الاعتراف بالآخر حاضرا، ليس دائما بوصفه عنصرا مستفزا لحقنا في الوجود، بل، وفي كثير من الأحيان،  بوصفه قوة فاعلة فيه، تشكل مصدر إلهامنا ومرجعيتنا، وتترجم قناعتي هاته، روسوم وتماثيل وشهادات من حضارات مجدت الآخر حتى ولو كان يحيا حياة مفارقة لمبدعي هاته الحضارات، لذلك فالآخر ليس بالضرورة هو الجحيم على رأي جون جاك ورسو، بل إنه هويتنا الأخرى، إنه ذواتنا حين نتصورها من خارجها - استعارة من أدونيس، ولعل هكذا تصور هو ما تعمقه التيارات الإكسيولوجية والسوسيولوجية المعاصرة، بل هو ما تكرسه فلسفتنا الإسلامية التي تجاوزت الانتماء العرقي والعنصري والإقليمي، وأدمجت مبدعين عالميين في الفلسفة والأدب واللغة والفقه والتاريخ داخل قلب الأمة الإسلامية، وبوأتهم صدارة النخبة من منطلق من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
    انطلاقا من هذه الاستعارات المجازفة، والتي قد تبدو مجافية وغير مساوقة لمقتضيات شهادة مركزة حول رفيقي في الهم المسرحي الأستاذ محمد زكي بوكرين، تعمدت أن أتناول شهادتي بكيفية مختلفة متوخيا السبر في دلالات التكريم، ضمن بعده الحضاري الذي ينأى بالنفس عن التفاهات والمساومات الضيقة الأفق، وسمحت لنفسي أن تفصح عن أخيلتها، لتقرأ كيف تتمسك جمعية محترف الإشعاع للتنمية والثقافة باليوسفية بثقافة التكريم، وكيف اجتهدت في اختزالها من خلال ثلاث صيغ؛
المحتفى بهم
صيغة الاحتفاء بالأدب في شخص الشاعرة   الشريفة مريم بن بخثة، وصيغة الاحتفاء بالعمل الجمعوي في شخص الفاعل الجمعوي السيد بوشعيب موفتي؛ وصيغة الاحتفاء بالفن المسرحي في شخص المسرحي الساخر الأستاذ محمد زكي بوكرين. 

شهادة في حق الشاعرة الشريفة مريم بن بخثة:
الشريفة الشاعرة مريم بن بخثة
 


     صيغة الاحتفاء بالأدب جاءت في طبيعة نوعية مثلتها الأستاذة مريم بن بخثة الأديبة الحمرية الناصرية الشريفة، قادمة من عبق صوفي في هندام أدبي عصري، عبق تكتنف كراماته جنوب بلاد احمر والكنتور، شريفة فاضلة تتحايل على الصمت القاتل ببوح رقيق، يمتح من رائحة الحناء تخضيبا للقصيدة، ومن أسراب الطيور المهاجرة ترانيم الإصرار على العودة إلى أحضان القبيلة، ومن غسق الزارية فوارس مترجلة \ مترحلة، تتمرد على ثخوم الفراغ المضنى من ترقب الفجر الذي تأخر انبلاجه، منطلقة إلى زحمة مدينة صارت سوادا من شدة بياضها، إلى حيث النقيض يضاهيه النقيض، وحيث يغترب البدر خلف سديم الأنوار وكاشفات الضوء؛ بدر الشاعر المصري محمود غنيم:


يا بدر أنت ابن القرى وأرك في *** ليل الحواضر إذ طلعت غريب
،
  إلى حيث تجرد هوية السكون من معناها، فتقفل أسراب النوارس والفوارس راجعة حبلى بألم الضياع، وقد ترجع أو لا ترجع، لكن الشريفة التي هي أقوى من الصمت، ومن السكون،  ومن هرج الزحمة وغواية الاستلاب، لا تفتأ راجعة من هناك إلى هنا، مقيمة هناك وغارقة هنا، وارفة الظلال هناك، متابشكة الجذور هنا، منسابة بين مد وزجر.. كما البحرفي نشوزه وحنينيته..، وكما الحلم الطفولي المتوطن منذ عصره الجنيني، لم يتغير لونها ولم تخذلها عربية أو فرنسية أو دارجة محلية في معناه الأنيق غير المتكلف، سيان عندك، حين تقرأ لها وهي تنسج أرخبيلاتها الأدبية شعرا أو قصة أو زجلا، فأنت تقرأ تراتيلها ضمن ميثولوجية سرية واحدة، بالرغم من تنوع أبجديات البوح عندها وتنوع أصنافه الأدبية، إنها تجليات العشق المقدس ( بكسر الدال ) للمعنى، عشق موغل في تجاويف النفس البشرية، حين يفيض من الداخل منتحلا كل الرموز المادية التي لا تملك غير الانصياع لهمس الذات وأسرارها، وليس البحث عن وسيلة التعبير بذي قيمة منتظرة، ليس جهد الإفصاح بمجد، طالما المعاني المتقصدة عند الشريفة الأستاذة مريم، تنتفض ماثلة في وجداننا من أول إطلالة، متراقصة بين ظهرانينا كفراشات الربيع، وقد تصمت، فيتحول صمتها لغة تهمس بالخير والجمال على قول الإمام الغزالي:                                       
 وكان ما كان مما لست أذكره  *** فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر              
     وحينما تستقطبك حضرتها الصوفية وأنت تمتطي متنها الشعري، وترخي قيادك لكلماتها الموسرة،
الشريفة الشاعرة مريم بن بخثة
بعد أن تكون قد أحسنت الظن بهمس العشاق الطاهر في ترانيمها، تدعوك بحديث الليل، وسكون بحر أضناه التموج، لتسائلك بلغة ضاربة في السكون، مفعمة بالحنين المستفز، تستفهمك دونما حاجة للإجابة ..، كيف تغرد للرحيل..؟، كيف تنشدها أغنية الوداع وأوكارها لم تزل عارية في البراري، يهزها الأنين الخافق بلا انتهاء..؟، كيف تستمرئ ذلك  من غير أن تمكنها من الاختفاء تحت ظلك كيف؟.. والشاعرة مويم بن بخثة حين تسائلك لا تستجدي جوابا، كما الرغبة في وخز الفكر ورجه عند سقراط، إنها فقط تفتش عن صدى روحها فيك، لتسكنك كما تسكنها هي القصيدة، ولتمرسك على ارتشاف بذور الأحلام من كفها، وحينها تكون قد سكنتك بلا جدران، وتربعت فيك عرش الصدارة، لا لتستعبدك أو تستهويك مائعا مغرورا بفحولتك، بل لتمنحك حب الحياة اللامرئية واللامقيسة خلف جنح الفجر؛ إنها تبعث في وجدانك كائنك وممكنك؛ كائنك المطمور تحت وكام مادي مترنح \ متعفن من وطأة الاحتراب، وممكنك الحالم المتوهج بالإنسانية والنبل والشرف؛ إنها تتقصد استنفار بعدنا الروحي لتستثمر اللامادي فينا، إنها تلمهمنا كيف نقرأها على مهل بأبجدية تمتح من عوالمنا حروفا غاية في البساطة وزخما في المعنى، وبذلك نستسلم معها وبها للغة العشق  الملائكي المكبوت في دواخلنا.
       ما أجمل بوحك يا سفيرة العشق الأزلي حين تهمسين،" ما أجملك يا امرأة الحلم تغادرينني كل مساء، حين أحن إليك، تأتيني كالهمسات، تأتيني أغنية للعاشقين مثلي يا امرأة الحلم، أسكنتني متاهات الحب العذبة الجميلة، سرت فارسا أنشد الحرف قصيدا، سرت فارسا أسرق من الزمن صهوته لعلي أصل إليك، أتسلق ضفائر الحلم فيك، أتعطر بفيض بخور روح سكنت أطيافها خوائي، ما أغواني رمشك الحارق، ما ألجمني الصمت حرفي بين نار عشقك وناري لهفتي تخترق حدودا جذران صمتي، ما أثقله صمتي حين أراك أستنكر غربة صوتي في حلقي يذوب، يذوب..، حتى أني أنسى أنني هناك حيث أنت، كم هو لذيذ ذاك الصمت الحارق بالبوح الكتوم...، أترقب خطوك هادئا كظلي وضفائر تعانق الريح، تغازل سيقان الصبا..، ما أحلاك يا امرأة الحلم حين تغادرينني كل مساء، وأنتظر شغفا أن أراك رابضة عند صحوي..، والآن تهزمني حروفي، لأن ليلي يتيم كفرحي، أهدهده كي ينام ملئ الجفون فيزدريني سرير الأحلام، أتوعد الأرق أن يفل.. أهدده.. أصرخ.. ارحل.. لا مكان لك في سوى العدم. يسخر مني أربت على كتف الوقت يحن إلي .. يتطلع في عمري، يجدني صفصافا لا ينحني..".
الشريفة الشاعرة مريم بن بخثة
                                                                   
 بهذا العشق الوغل في صدر الليل، المتيم بهوس البوح، حيث ينام القصيد حالما بحروف من نور، تعلمنا شاعرة الزاوية الناصرية القابعة بسيدي النعايمي في قبائل حمير المغربية، وهي تتنشق رطوبة المحيط الأطلسي بالشاوية، كما علمتنا ذات يوم رابعة الثالثثين العدوية، كيف نقرأها على مهل، حبلى بقصيدة ممشوقة القد على ناصية الحروف..، همسا يغازلنا كلما غفونا في ظلها..، صبا ممشوق الروح..، رواية نصنعها نحن على سرير الفرح..، تعلمنا كيف نتلو جراحاتها صلاة في محراب يترفع عن الدنايا ووسخها الزائل..، تعلمنا كيف نترنم لقصيدة تسكن شاعرة وشاعرة تسكن القصيدة، تعلمنا كيف نرتل أنشودة الصباح مع طير يغرد في البراري، يعشق الحرية، كتسنيمة فرح عذري، كالفرحة الأولى، كاللحظة الأولى، كالهمسة الأولى، كالقبلة الأولى..                                                                       
      ما أروع أن تتيح لك جمعية محترف الإشعاع للتنمية والثقافة هذا الإشعاع الروحي ذي النكهة الصوفية، ما أروع أن تتيح لك جلوسا كومض البرق، بين يدي شاعرة هادئة رصينة ومتواضعة، وما أروع اختيار أول صوت نسائي موضوعا للتكريم، بعد مسيرة احتفاءات بالنوع الآخر فاق عشر دورات، فهنيئا ليوسفية المضارب؛ مضارب الخيل والليل والبارود، مضارب الزوايا والأولياء الصالحين، مضارب العلوم العتيقة والمدارس القرآنية والفروسية وركوب الجياد، مضارب الأدباء والفنانين والسواعد والعقول الذكية؛ مضارب الرغاريد الضاحكة \ الدامعة \ الممانعة \ المناضلة \ الأبية ضدا على النسيان والتهميش والهشاشة، وهنيئا للمغرب المتألق بروح المرأة المغربية الشريفة، وهنيئا للمرأة العربية المبدعة وهي تستلهم عشقها الأبدي من أديبة استثنائية، قادمة من ثنايا الهضاب الحمرية، تحمل مهارات الجمع والتوفيق بين سرد روائي وقصصي ونظم شعري وزجل حالم، لا يفتأ محلقا رغم أنف العتمة..                                                                       
شهادة في حق الأخ المناضل الفاعل الجعوي بوشعيب موفتي:    
الفاعل الجمعوي السيد بوشعيب موفتي
إضافة إلى التكريم في صيغة الأدب، يأتي تكريم من طينة أخرى معانقة للعمل الجمعوي بمدينة اليوسفية في شخص أخينا المناضل والفاعل الكاريزمي السيد بوشعيب موفتي، تكريم يلامس هموم الفعل الثقافي في شقه الإجرائي المتصل بصناعة التنظيم والتأسيس لخلفية ثقافية تولد من وراء الكواليس، خلفية مميزة وملفتة للرأي العام المحلي بالرغم من افتقارها لأبسط شروط التميز، خلفية يقود عجلتها زعيم التضحيات والمكابدات اليومية، رجل خدوم للجميع؛ معطوبين وأصحاء، بدراجة هوائية أو نارية تتحدى قيود الإعاقة، وتتأبى الخمول أمام سطوة فصول سنون متوالية، ذات رياح لا تفتأ عاتية، ولفح برد قارس لا يكل ولا يمل، وفياضانات سيول تجرف الأخضر واليابس في بنية تحية مهترئة نهب مالها العام، وتعالى عن ويلاتها شرف المكتب الشريف، داخل مدينة صغيرة تناثرت أحياها ككثل ضباب أعجف يندر بمطر ولا يجود بغيث إلا لماما، مدينة عذراء ما تزال تتوسع من غير هدف أو نظام عمراني، سوى المزيد من بؤساء نابغين ومعطلين مؤهلين وفاعلين جمعويين ملوا وملتهم لغة الاحتجاج والاعتصامات.
     في هذا الجو المشحون بمحفزات الغضب، يرفض البررة من أبناء المدينة إلا التمسك بالأمل والعمل، فتجدهم يقتنصون كل مناسبة لتأكيد الاستماتة في التألق والحضور، حضور تباركه السلطات والمجمع الشريفي بالحضور، شريطة عدم الإسراف في المطالب.
    وأنت تجوب المدينة كل يوم، يستحيل أن لا ترمق عيناك فاعلا جمعويا من حيوته وشبابه صار كهلا، يتأفف من فرط غياب الدعم الجمعوي اللائق، وانعدام السند البشري المستعد للضحية بعيدا عن رهانات الربح المادي؛ إنه الفاعل الجمعوي السيد بوشعيب موفتي الذي تعرفت إليه منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، حركيا داخل الشبيبة الاتحادية بفرع الاتحاد الاشتراكي باليوسفية، أتاح له هذا الانتماء تعايشا عن قرب مع رموز المشهد السياسي اليساري من رجالات المغرب داخل اليوسفية وخارجها، وتمرس على حب المعرفة بالرغم من تواضع شهاداته العلمية، فكان نهما لجمع كل ما يقع تحت يديه من كتب ومجلات وجرائد ومناشير وقصاصات أخبار، ليستفيد منها أحيانا وليفيد بها ـ في أحايين كثيرة ـ من يتسم فيهم خير المدينة وازدهار حركتها الثقافية، وحيث إنني كنت حينها ناشطا جمعويا يدافع عن لا انتماء المثقف المبدع، الذي حسب اعتقادي ـ يتوجب عليه أن يكون صوتا لجميع التيارات السياسية والدينية والثقافية، معبرا عن انشغالاتها الحقيقة بمعزل عن الإيديولوجيات، وكنت أتردد رفقة فرقتي المسرحية على قاعات العروض، وقاعات التداريب، انطلاقا من دار الشباب \ الأمل، التي أتاحت لي تكوين عدد من الجمعيات والانخراط في أكثر من جمعية وأكثر من ناد، إلى مقر الجمعية الثقافية التابعة للمركب الفوسفاطي، الذي سبق لي أن أسست فيها فرقة الرابطة المسرحية، إلى الشبيبة الاستقلالية، إلى شبيبة التقدم والاشتراكية وطليعتها، إلى ثانويات المدينة ومدارسها، علاوة على المركز الثقافي الذي فتح أبوابه بداية التسعينيات.
    حين تعرفت إلى هذا الرجل في خضم كل ذلك، اقتنع بوجهة نظري، لينظم إلى دار الشباب، ثم بعد ذلك دار الثقافة، ثم بعد ذلك التحق بقسم الشؤون الثقافية التابع لمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط مستخدما رسميا، وبقي محافظا على هواجسه وميولاته للعمل الجمعوي، خاصة وأن تجربته كانت أعمق من أن تهدرها انشغالاته المهنية، ذلك أنه شغل منصب مستشار لجمعية المعاقين حين كنت رئيسها، وابتلي معي في تأسيسها البلاء الحسن، وكان مضرب مثل لي ولسائر أعضاء المكتب المؤسس، في جرأته وصراحته وتفانيه وعناده الذي لا يقهر، إلى درجة أنه كان يخاطر بنفسه في مواجهة المتزلفين، وسدنة استغلال تعاطف الجمهور مع الجمعية، وهي تخطو خطواتها الأولى من غير دعم أو منحة، كان دائما ناجحا في مهام العلاقات الخارجية، وفي حركة التحسيس والتواصل مع جمعيات المجتمع المدني داخل المدينة وخارجها للتعريف بنا وبأهدافنا،
عبدالجبار\ عاطف\ بوشعيب: تدشين كشك جمعية المعاقين
ونحن نجازف بوضع لبنات أول تنظيم يختص بشؤون الإعاقة على صعيد التراب الحمري، وكللت إنجازاته الرائعة بإجماع الجمع العام الأول على مقترحي في أن يتولى السيد  بوشعيب موفتي رئاسة الجمعية من بعدي، حيث قادها بجدارة بالرغم من اهتماماته الفنية، وليكون بعدها عنصرا فاعلا في عدد من مكاتب التسيير الجمعوي قبل أن تحط به الرحال في أحضان جمعية محترف الإشعاع للتنمية والثقافة،
إالتامي\ منكوشي\ بوشعيب في: عضة كلب مع فرقة الإشعاع
 والجدير بالذكر أن روح الفكر الإشعاعي كانت قد تولدت في قناعات مؤسسي هذه الجمعية، وهم أعضاء في فرقة الإشعاع المسرحيالتي كانت تابعة لجمعية المعاقين، خاصة الأخ الجمعوي المناضل والشاعر الزجال السيد عبدالرحيم الثقفي والأخ الناشط الجمعوي السيد بوشعيب موفتي.                                                                        
      كان الأخ بوشعيب موفتي هو الكائن المشترك فينا نحن الجمعويين بهذه المدينة، والظل والحاضر الفاعل معنا، عضوي بمعنى الكلمة، ميكانيزمي داخل ألوان الطيف الثقافية، ويكفينا فخرا وامتنانا لدوره حين كان ينتزع من أسرته بيتا في الطابق الأول من مسكنها بلابيطا، نؤمه ليلا ونهارا دونما حرج تحت كرم الأسرة التي كنا نشاركها خبزها ومرقها وقهوتها وشايها، وحتى ما كان يتأتى لها من فواكه طرية أو جافة، بالرغم من كثرتنا المائعة وقلة ذات يدها، كانت أمه أما للجمعويين وأبوه أبا لهم، نناقش تحت سمعهم وبصرهم همومنا الثقافية، ونتمرن ونصيح ونخبط الموائد، وكأننا في دار الشباب أو كأن البيت بيت أبينا، نستهلك الضوء إلى وقت متأخر من الليل دون مراعاة، ونأتي على الماء البارد في شدة الحر من المثلجة دون مراعاة، ونطلب من أمنا التي هي أمه ما يمكن أن نطعم به أو نسقى عند انبلاج الفجر دون مراعاة، كل الضيوف المبدعة التي كانت تزور مدينتنا في الملتقيات الثقافية، كانت تجد بيت الأخ بوشعيب موفتي بيتا لها، وكل الوجوه الفنية والجمعوية التي ترددت عليها، تعرف رائحة كسكس أم بوشعيب وشكله وطعمه. 
     ماذا عساني أن أقول فيك أيها البطل الصامتـ، ودمعي يكاد يعجزني عن الاستمرار في سرد خصالك النبيلة من شدة الإعجاب والإكبار وفرحة التكريم، معترفا اعترافا صادقا بفضلك على جيلي، والأجيال التي تلتني من عشاق الفعل الثقافي؟؟؟ ، ماذا عساني أن أقول؟؟؟، ومما يزيدني إعجابا وعجزا على المضي في تعداد سجايا هذا العلم الجمعوي، أنه كان رجلا متنوع الاختصاصات، رجل يقوم بما نعجز عنه حين نقع في أي ورطة، فهو نجار الديكور، وهو مصلح الأعطاب الكهربائية، وهو المفتش عن الملابس والإكسسوارات من الجوطية، وهو المحافظة العامة، وهو المستأمن على الوثائق الرسمية والصور وغيرها، بل كان يوثق حتى المشاهد الإخراجية بحركتها وحواراتها وتقسيمات الخشبة وتومضع الممثلين، بينما نحن غارقون في التداريب مع أنه غارق مثلنا أيضا.
    وإلى جانب ذلك، فالأخ بوشعيب يمتلك قدرة نادرة على التفاوض والخروج بأقل الخسائر في البروتوكولات والملفات المطلبية التي يمثلنا فيها، ولم يكن يخشى في الله وفي حقوق الجمعويين لومة لائم، لم يتغيب يوما عن اجتماعاتنا العادية أو الاستثنائية، وكان حضوره مهم في الاجتماعات الرسمية مع الإدارات محليا وجهويا، لأننا كنا نضمن من خلاله حدا أدنى من الربح التفاوضي بأقل الخسائر ماديا ومعنويا. السيد بوشعيب موفتي، رجل ينخرط في كل المفاوضات وكل الأرواش التي تخدم مصلحة المدينة، وتدفع بها نحو الإشعاع والحضور،

 رجل خبر كواليس العمل الجمعوي حتى الثمالة، وناضل بالسهل الممتنع ببراءة الغيورين حتى استحق توصيفه بإيزيس المدينة في منافحته لصخرة الجمود، ويحلو لي توصيفه بحصان طروادة الذي صنعه إبيوس، عندما كان يتغلغل في أعماق الطرف الآخر بلطف ووداعة كهدية الاستسلام، ثم لا يلبث أن يكشف صدره عن مفاجآت كفيلة بتحقيق الانتصار، كأنه يلعب الورق \ الرامي، كما كان يفعل بنا، هكذا هو السيد بوشعيب موفتي في تفاوضه ومناوراته النبيلة في سبيل الحفاظ على حياة العمل الجمعوي.
    أما موفتي بوشعيب الممثل
شخمان\ منكوشي\ التامي\ بوشعيب: في سكيتش الحاملة
 فهو ماهر في  التعبير الجسدي وخاصة الإيحاء بالملامح، يطاوعه في ذلك استطالة الوجه وجحوظ العينين والقدرة على التحكم في الرقبة والفم والحاجبين وخفة الجسد ونحافته، لا يمكن أن يسند الدور لهذا الرجل دون أن يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، ليجلعه مطاوعا له بطريقة يدركها هو فقط، وجل الحوارات التي ترغمه عليها أدواره، يستعيض عنها بالحركة والتعابير الملمحية والزغاريد المولولة والضحك الجنوني، والملفت هو أن هذه الحلول الذكية تقع تحت بصر المخرج وسمعه، فيستطيبها عوضا عن الحوارات التي كان الممثل بوشعيب يشعر أنها ترهقه، فالمهم عنده هو تأدية الدور على النحو الذي يروقه ويحس به ويبدع فيه، هذه هي خصال الممثل الناجح الذي يجيد استثمار قدراته الذاتية في مواجهة ما يبدو للمثلين الكسالى ضربا من المستحيل. وصوت الأخ موفتي كان أقوى الأصوات في الأعمال التي شاركني فيها، حتى أننا كنا نستلطفه كي لا يصير نشازا، أو يتعذر على الممثلين الآخرين مجارات نفسه الطويل، صوته مليئ بالهواء وكأن ليس بفمه الحلمات كالآخرين، يميل إلى الرقة التي مكنته من النجاح في أدواره النسائية بدرجة عالية في تقليد النساء، إلا أن هذه الأدوار التي كان يقوم بها، تظل مطبوعة مغلفة بمفرادات رجولية، وإزاء البعد المورفولوجي الذي يعتني بإكسسواراته بدقة ليبدو كامرأة حقيقية، وإزاء صوته الرقيق وتشكيله بمخارج الصوت النسائي، لا تملك إلا أن تجزم تحت تأثير الإيهام أن الشخصية امرأة بالفعل، لكن عند تتبع مفردات حواره تجدها منتسبة لقاموس الرجال، فتصبح صورة المشهد تعبيرا عن امرأة بلغة رجل، وأمام هذا الوضع لا يملك الجمهور إلا أن يغرق في الانبهار والضحك، كنا نعاني من شعيبة ـ كما يحلو للبعض مناداته من باب الدلع ـ لا لشيء، إلا لأنه كان يضحكنا هزلا في مواقف الجد.. هكذا هو أخي ورفيق دربي في العمل المسرحي والجمعوي باليوسفية، كما عايشت صفاته التي حال الزمن بيني وبينها قرابة الثلاثين سنة.
شهادة في حق الأستاذ المسرحي محمد زكي بوكرين:              
أولاـ محمد زكي بوكرين في حاضنة المبدعين.                       
    إضافة إلى التكريم في صيغة الأدب والعمل الجمعوي، يأتي تكريم ثالث احتفاء بأبي الفنون ومتعة المجانين بامتياز؛ فن التشخيص والتمثيل، في شخص الأستاذ والفنان المتفرد أخي محمد زكي بوكرين، دفعة أول فوج من طلبة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط مستهل التسعينيات ؛ معهد استهدفت بلادنا من تأسيسه تجذير الحضارة المغربية، مع السهر على مكتسبات علوم وتقنيات التواصل في علاقاتها المتنوعة بفنون العرض والفرجة، هناك تلقى المحتفى به دراسته الأكاديمية من منبعها مؤثثا بثلة من أعلام الحركة المسرحية الذين ما فتؤا يثرون مشهدنا الثقافي مسرحيا وسنيمائيا وإعلاميا بأجيال تميزت بالقدرة على الابتكار والتغيير وصناعة الفرجة على أصولها، شكلت أجواء المعهد حاضنته الأولى التي جعلته لم يندم على عدم تبني الاختيار التقليدي الذي قرره مجايلوه، حين آثروا مدرجات الجامعة أو الالتحاق بوظيف مبكر بعد حصولهم على شهادة الباكالويا خوفا من مستقبل غامض، عكس الأستاذ محمد زكي بوكرين المغامر \  المهووس بجغرافية الخشبة، كان المعهد بالنسبة إليه خطوة سليمة لاستئناف مشوار الحلم، الذي تشبعت به روحه وهو يمارس طقوس الحلقة ولعبة التمثيل بعفوية وتقنيات بدائية منذ وقت مبكر، وكان من حسن طالعه أن يتتلمذ على يدي هرم من أبرز أهرامات التأطير المسرحي المعاصر ببلادنا، سواء من حيث التعبير الجسدي، وإعداد الممثل، والتكوين الرماتوروجي، أو من حيث التربية على السلوك الفاضل والالتزام بالأخلاق الحميدة.    
المرحوم الأستاذ \ الفنان جمال الدين الدخيسي

الأستاذ جمال الدين الدخيسي الذي وافته المنية يوم أمس الجمعة  24 مارس 2017، وهو يوم عيد ميلاه الثالث والستين، الذي استوعب نظرية ستانسلافسكي في مهدها حين كان يدرس التمثيل والإخراج المسرحي بالأكاديمية الروسية لفن المسرح . كانت الستانسلافسكية حينها قد تجاوزت مرحلتيها الأوليتين، ودخلت مرحلتها الثالثة. ولست أدري أخي العزيز الآن، هل أحتفي بحالك أم أرثيه؟، وقد فارقنا إلى دار البقاء أستاذنا الفاضل، فارقنا هذا العلم الفذ الذي تخرج على يديه كبار صناع العرض والفرجة في مغربنا المعاصر؛ في المسرح والسنيما والاتصال السمعي \ البصري، والتنشيط الثقافي والركحي، وكنت أنت من فوجهم الأول، وإذ تحضر بيننا اليوم، وقد عدلت عن سفر المشاركة في تأبين أستاذك، والاكتفاء بالوفاء لهذا الموعد، لا عشقا في التكريم وأنا أدرك ذلك، ولكن تلبية لنداء تلاميذك الذين أصبحوا رجالا \ مشاعل للتنمية الثقافية بهذا البلد المناضل، ووفاء أيضا لرفاقك على الدرب وعشاق فنك العصي على الطمس والتجاوز والتجاهل.                                                                    
ثانياـ محمد زكي بوكرين إضافة نوعية للحركة المسرحية باليوسفية.
  كان قدومك إلى اليوسفية موظفا بالمركز الثقافي عقب التخرج، فتحا مبينا على الحركة المسرحية باليوسفية التي وضع لبناتها في صيغة عصرية جادة المرحوم فاضل، الشبيه بشهرمان مراكش من خلال تقاطعهما معا في الانزياح لعبثية صمويل بيكت والتزام سعد الله ونوس السياسي، وتحت وطأة الحاجة للشغل، ومحنة عيش مأزوم بلعنة الإقصاء الذي فرضته سنوات الجمر والرصاص، يهاجر مدينتنا فاضل تاركا وراثة عرش الخشبة لقيدوم مسرحيينا الأخ محمد التويجر،                                  
ذ. أحمد فردوس رفقة الفنان محمد التويجر
الذي استوعب تجربة أستاذه المرة وإكراهاتها المرحلية، ولأنه كان - إلى جانب مسرحيين أخرين كالفنان نور الدين بن سعيدة - إطارا فوسفاطيا  في ثكنة أشبه ما تكون بثكنات العسكر، ولأنه أيضا كان ذكيا عاشقا مأخوذا  بلذة الخشبة وجاذبيتها، فقد ظل مخلصا لطرح مسرحي جاد، قاوم من خلاله تدجين ذوق جمهور اليوسفية بعروض التفاهة ورداءة الكواليس، وضمن الاحترام للحركة المسرحية بتبنيه المسرح الرمزي في ثوب احتفالية الصديقي وبرشيد، مستلهما موروث منطقة احمر، وبأسلوب هادئ نبيل صنع مسرحا احترافيا تجريبيا جادا، أدرك منه جيلنا أعمالا رائدة كالهضرة في الميزان،
الفنان التويجر والفنان زكي بوكوين وعبدالجبار والاجيال الصاعدة
لتأتي في خضم ذلك حركتنا الشبابية كمسرحين نهلوا من معين مسرح الهواة، مفاهيم العشق المسرحي نظريا وتطبيقيا، أضافت إلى تجربة السابقين زخما وفورة وإشعاعا، وكنت بعد ذلك أنت من تعهد وضعها على خط التكوين المسرحي الأكاديمي،
يتوسطنا الأستاذ محمد زكي بوكرين
فمنحتها إضافة نوعية جعلت فن الملسوعين يتغلغل في شرايين أجيال لاحقة.

ثالثاـ بالصدمة الأولى والدهشة الأولى يرسم محمد زكي بوكرين مساره الفني:
      منذ بدايته الأولى وهو شاب يافع التحق موظفا بالمركز الثقافي باليوسفية، عمل الفنان محمد زكي بوكرين على صب اهتماماته المهنية في التأطير المسرحي وفقا لما تمليه عليه شهادته العليا واختصاصه الفني، وحيث إن المركز تحت وصاية المجلس البلدي، وحيث إن المجلس كان يتصور هذا الشاب مجرد موظف عادي يرتدي حلة متصرف ممتاز بجماعة اليوسفية، عينه مديرا للمركز الثقافي راعيا للخزانة العمومية بالمدينة، مع أن الخزانة قسما واحدا فقط من بين أقسام المركز الذي يشتغل على اهتمامات أوسع من هذا التصور البدائي،                       
وكان هذا التصور أولى صدمات التعفن التي يتعرض لها مسرحي سفير للمعهد في مدينة صغيرة منسية، تبعد عن مسقط رأسه \ مدينة سيدي سليمان بمئات الكيلومترات، وهنا بدأ العبث: مركز ثقافي تابع للداخلية وليس لوزارة الثقافة؟، وخيل إليه أنه في منفى بجزيرة مفارقة لكوكبنا الأرضي، جزيرة لا تفهم الثقافة ولا المسرح ولا الأدب ولا الإبداع، لأن فرحته الأولى دهستها إرادة متحجرة في إدارة تقليدية أوهمته بتخلف المنطقة كلها عن الركب، لكن إرادة هذا الفنان كانت أقوى، وحلمه كان أوسع من أن يعيش حياته في جبة موظف قابع على كرسي أنيق بمكتب جميل، فالرجل امتزجت روحه بروح المسرح، فأصبح حين يتكلم يتكلم مسرحيا، وحين يتنفس يتنفس مسرحيا، حتى صارت كتاباته الزجلية البارع فيها، كتابة تطفح بالصور واللوحات المسرحية، كل شيء من حوله لا يفتأ يراه ويشتمه ويقرؤه بلغة وبطعم مسرحي، حتى ملابسه في حياته اليومية، تعكس ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ هوية مسرحية تسكن أعماقه، وإن صادف ورأيته بلباس عادي كما يلبس كل الناس، خال من أبعاد شخصياته المسرحية الميتافيزيقية، فأعلم أنه ينافق وجوده الحقيقي، ويماري وضعا فرض عليه ليجامل مناسبة عائلية أو رسمية، وتشعر به مثقلا بلباس لم يصمم له، لا يحسه ولا يشعر به، تماما كأستاذه الدكتور الدخيسي متواضع الروح والمظهر، يكره الأضواء والصفوف الأمامية والحلقات غير القابلة للتمسرح، فكان هذا العشق المسرحي الذي لا يستأذنه ولا يطاوعه، هو الذي جعله يقاوم صدمته الأولى، ودهشته الأولى، بقناعة الواثق من رسالته المسرحية في الحياة، فبادر إلى خلق أوراش التكوين والتأطير المسرحي، استفاد منها كثيرون ممن يحضر اليوم هذا الحفل البهيج.
رابعاـ كرونولوجية مسار محمد زكي بوكرين على درب الفن المسرحي.
    للأستاذ محمد زكي بوكرين مسارا فنيا حافلا يمكن رصده باختصار فيما يلي:
1988ـ المشاركة في مهرجان الحكي المسرحي بأفينيون \ فرنسا
1990ـ نيل دبلوم المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، عن بحث التخرج بعنوان: " تقنيات الضحك من خلال السكيتش بالمغرب "، أطره المرحوم د. سامرجمال الدين.
1991ـ المشاركة في مهرجان الحكي المسرحي بصقلية \ إيطاليا رفقة الكاتب الطاهر بنجلون
1992ـ المشاركة في الجامعة الصيفية باسكوريال \ إسبانيا
1992ـ المشاركة بعرض ساخر في مهرجان المسرح باليوسفية تأليفا وإخراجا..
1992ـ المشاركة بإخراج لوحات ساخرة قدمها تلاميذ ورشة المركز الثقافي في مهرجان المسرح باليوسفية.
ـ المشاركة في مباريات دولية للارتجال مع المنتخب المغربي أمام العصبة الوطنية للارتجال الكندية
ـ المشاركة في مسرحية "الأعزب"، لتيركونيف \ إخراج د. المرحوم جمال الدين الدخيسي
ـ المشاركة في مسرحية "رجل برجل"، لبيرطولد بريشت \ إخراج د.أحمد البدري
ـ المشاركة ممثلا ومساعدا للمخرج في المسرحية العالمية "رحلة ابن بطوطة" \ إخراج السيدة فرانسوا جورند (إنتاج مشترك مغربي \ إفريقي \ فرنسي \  روسي \ ايطالي \ كوري).
1998ـ المشاركة في ليلة الضحك بالرباط. 
2000 ـ المشاركة في مسرحية "خربوشة "، إخراج الحبيب لصفر.
ـ جولات على بساط وان مان شو لملاقاة الجمهور المغربي بالأعمال التالية: 
* كاين يا ما كاين.
* رجال الكرة.
* رجال المسرح.
ـ التأسيس لتجربة المسرح الرقمي باليوسفية بأعمال كثيرة في صيغة لوحات وهلوسات مرئية وصوتية.
ـ المشاركة في ورشات التكوين المسرحي محليا وجهويا ووطنيا، آخرها كان في الدورة العاشرة لمحترف جمعية التنمية والثقافة باليوسفي 2016
2017 ـ المشاركة في مهرجان الدراما التلفزية بمكناس \ نظمته جمعية العرض الحر. 
ـ مراكمة الفعل الإبداعي إلى جانب ممثلين لاتنساهم ذاكرة السنيما والمسرح والتلفزيون بالمغرب؛ من أمثال الفنانين، محمد سعيد عفيفي، وعبد الرزاق حكم، ومحمد بنبراهيم، وعائشة مناف، ومحمد الشوبي، وسعاد خيي، ونزهة رحيل، ونورالدين زيوال، وفوزي بنسعيدي، وعبد العاطي المباركي، ومحمد نظيف، وحمدان الحبيب، وحميد باسكيط، وحسن الفد، وحنان الفاضيلي. 
ـ الاعتناء بمقتطفات الزجل الساخر ونشرها على حائطه بالفايس بوك.
خامساـ منهجية محمد زكي بوكرين في التكوين والإبداع والحياة.
    كانت الصدمة الأولى والدهشة الأولى كافيتين لوضع الفنان محمد زكي بوكرين على المحك، حيث أبانتا عن قوة شخصيته وقدرته على الصمود ضد تيار التبخيس والفرجة المناسباتية، فتحلق حوله جيل تجاوز السبعين بين تلاميذة المدارس وطلاب الكليات، وكنا كزوار للمركز الثقافي، لا نستطيع التمييز بين من هو الأستاذ ومن هو التلميذ، نظرا لسحنته الشعبية وتواضعه الراقي ورقة سلوكه الأخوي، علاوة على احترامه للمسرح، إلى درجة أنه حين يلج الخشبة، يبدو وكأنه يرتل فيها طقوسه الأولى مهابة وتقديرا لجمهوره.
     لم يكن مكونا صعب المراس، ولم يكن جافا في إيصال مفاهيمه وتمرير رصيده الأكاديمي للمحيطين به، كما لم يكن تقليديا في التعامل مع حلقات التكوين، فمنهجه في إعداد الممثل كان هو منهجه في إعداد اللوحات المسرحية؛ الالتزام بالتلقائية، والمحافظة على الاسترخاء الذهني والبدني، وتحمية الجسد، وتخصيب المخيلة، وتوظيف الذاكرة الانفعالية، وتقوية التركيز، وتعلم القدرة على الإحساس؛ الإحساس بالذات \ الإحساس بالآخر ممثلا كان أو جمهورا \ الإحساس بالديكور \ الإحساس بالإكسسوارا ت \ الإحساس بالملابس \ الإحساس بالمؤثرات السمعية \ البصرية، وأخيرا الاهتمام بالصوت ومخارج الحروف وتطابق الكلمات مع مدلولاتها المسرحية عند الإلقاء، مع إفراغ كل هذه التقنيات في قوالب ارتجالية متنوعة، وكانت أولى أعماله باليوسفية، وشارك بها في المهرجان المسرحي لسنة 1992، عرض مسرحي ساخر من روائعه الخاصة، إضافة إلى لوحات ساخرة من إنجاز تلاميذه وإعدادهم تحت إشرافه السينوغرافي والراماتوروجي بلمسات إخراجية غاية في التجريب. 
     الاشتغال مع محمد زكي بوكرين اشتغال على اللعب باللعب؛ اللعب بالحركة على أساس تحليلها وفقا لمنهجية الدكتور الدخيسي، التي تلقاها بدوره عن أستاذته بموسكو السيدة أوسبوف أناكيبل المتوفاة سنة 1985. واللعب بالكلمات على أساس توليدها واستثمار صورها اللاذعة، وفقا لتقنية المسرحي الساخر أحمد السنوسي. واللعب بالموضوعات الراهنية \ اليومية على أسس ارتجالية وفقا لمدرسة كوميديا الموقف. وأخيرا اللعب بالمعنى القيمي بين الثابت والمتحول \ الهدف واللاهدف \ المعنى واللامعنى، على أساس النظرية التعليمية عند بيرطولد بريخت، وفق دراسته الأكاديمية ووفق ما أستوعبه  من ميكانيزماتها على يد أستاذه الدكتور أحمد البدري.
      الاشتغال مع هذا الفنان، اشتغال على ذات الممثل نفسه قبل إلقاء النص، لا على النص الذي تحفظه ذاكرته وتترجمه جوارحه وملامحه، فالنصوص عنده، يجب أن تتدفق تلقائيا من لحم الممثل وعظمه، من دمه وعرقه ومحياه، النصوص عنده تصطنعها الزفرات والآهات والأنات بمطاردة المعنى المرتجل، مطاردته وهو يتناسل في جمل حركية يصير اللفظ المنطوق ـ فقط ـ جزءا واحدا من أجزائها التعبيرية، وحين يلجأ محمد زكي بوكرين إلى تقنية الحلقة التي تختزل كل المدارس التي خبرها وتمرس عليها، تجده يراهن على صور متخيلة مشبعة برسوم كاريكاتورية قادمة من عالم تهكمي، رسوم  مبطنة في قوالب زجلية بنفس سجعي قصير ومتقطع لا يجاريه فيه أحد. 
      هاته المنهجية غير قاصرة على علاقة الفنان محمد زكي بوكرين بتلاميذه، بل تشمله هو نفسه في أوراشه الشخصية، داخل بيته، أو سائرا في الطريق العام، أو منعزلا في مقهى لا يهمه تصنيفه أو درجته، أو ساهما وهو يلعب الشطرنج دون أن يطربه الربح أو تقلقه الهزيمة، فهو صادق في هيامه بالمسرح حتى الثمالة، الشيء الذي جعله صادقا في كل شيء، صادق في منهجه مع ذاته ومع الآخر، جريئ وشجاع في التعبير عن تصوراته، مدافع عن كبرياء وأنفة المبدع الساكن فيه، مهما كان الموقف الذي يساق إليه، ومهما كانت الإكراهات التي تجرفه عن الرغبة في أن يكون أناه وهويته الجديرة بالاحترام، والذي لا يخالطه، يخاله عنيفا عدميا متشائما لا مباليا ولا مكثرتا، متكبرا متعجرفا أنانيا فوضويا لا مسؤولا، مع أنه  في الواقع عكس ذلك كله، رجل خبرته عن قرب، عاطفي جدا، اجتماعي جدا، رقيق القلب، بريء الطوية، محب للحياة والخير والجمال، ضحوك متفائل، مسالم، وطني صادق، غيور على بلده وعلى الناس من حوله، وعلى الفن الهادف الذي يصلح ولا يفسد، ومن هنا ترسخت في نفسية الجيل المسرحي الجديد باليوسفية عقيدته المسرحية القائمة على الصدق في الأداء الميلودرامي اللاذع، لإنتاج فرجة مسرحية محكومة بقواعد الارتجال وتقنياته، وبديهي أن إنتاج هكذا فرجة مشروط بالتلقائية النابعة من الموهبة والتكوين الأكاديمي الجيد والنفس الإبداعي.
خامساـ أسس العقيدة المسرحية عند محمد زكي بوكرين.
    أسس عقيدة الفنان محمد زكي بوكرين المسرحية لها تمثلات مختلفة يمكن رصدها فيما يلي:
1ـ من حيث الموضوع: 
    تنوع الرصيد الثقافي لدى هذا الفنان، والناجم عن سعة الاطلاع والمتابعة المستمرة للعروض المسرحية والسنيمائية والتلفزية، ومواكبة أحداث الساعة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وطنيا ودوليا، كل هذا التنوع المرجعي، بلور لديه ثقافة عصرية محاينة، استطاع تطويعها لانشغالاته الفنية، فاتخذ من الركح منبرا للتعبير عن صداها في كيانه كأي فنان صادق ملتزم، يحول هموم وطنه ومعيشه اليومي إلى رسائل يعرضها على جمهوره بأسلوب يتخذ الفرجة ومتعة اللقاء وسيلة لها، وطريقة للتنفيس عن صداها في نفسه كفنان، صدى لا يمثل الواقع بل يتمثله، متشابها في ذلك مع بلوتوس أشهر شعراء الكوميديا الرومانية الذي أبدع مواقف ساخرة حية مستلهمة من النكتة الشعبية، فهذا الفنان لا يحاكي ما يقرأ أو يرى في معيشه اليومي،                                    

بل يحلله ويستلهم منه مادته الموضوعاتية في صور عبثية ساخرة، قائمة على مبادئ وثيمات راسخة، تتحكم في عروضه الموسومة بالنقد اللاذع البناء، ثيمات تسكن عقله الباطن ولا شعوره النقدي، تتسرب إلى منتوجه الفني بتلقائية شعر بها أو لم يشعر، أبرز هذه المبادئ والثيمات في أعماله ما يلي:
أـ  فكرة الكتابة النصية:
    تسعى فكرة الكتابة عند هذا الفنان إلى مناهضة اللامعنى أيا كان انتماؤه وشكله ورائحته، مناهضة الإقصاء والإلغاء والتهميش أيا كانت طبقة المقصيين والملغيين والمهمشين حتى ولو من طبقة الحكام، مناهضة الأدعياء وعشاق الأضواء والمنابر والكراسي والصدارة والصفوف الأمامية عن غير جدارة واستحقاق، مناهضة التفاهة والرداءة والابتذال والسخافة والخواء، مناهضة التزلف والخوف والجبن والخضوع والخمول والانصياع والتقليد والاتباع والإذعان، مناهضة الظلم والتبخيس والإذلال والاستغلال والاستضعاف والاستصغار والاستكبار والاستغباء والاستحمار.
بـ  بناء الكتابة النصية: 
   يبني الفنان محمد زكي بوكرين نصوصه على السؤال الحارق المستفز، والاستفهام المتكرر، والتعجب المكابر المهجن المستضعف ( بكسر الضاض )، والتحدي المستنفر، وكشف التناقضات والمفارقات البشعة، والتهكم، والحوار بين الأضداد، والاستقواء المزعج. والتعنيف المقلق بإشارة الأصبع الوسطى وعبارة الكلمات المقززة ( بكسر الزاي الأولى وفتح الثانية ).




شكل الكتابة النصية عند هذا الفنان الذي يكتب نصوصه بنفسه، يطبعه أدب المقامات الهمدانية، 
ومرتجلات الحلقة القائمة على استثمار الصور المتناقضة التي يعج بها المجتمع، مبلورة في زجل مسرحي يستولد المعنى المطابق للموقف، انطلاقا من تشقيق المفردات والكلمات، التي تشكل بؤرة موضوعه ومركزيته، وملاحقة مسجوعاتها بكيفية تراكم البناء الدرامي للمواقف الساخرة التي يشتغل عليها، فالكلمات عنده هي صورنا المكثفة من منطلق قناعته بأن اللغة هي وعاؤنا الحضاري ومرآة مخيالنا الجمعي، واختزال وظيفي لأقوالنا وأفعالنا ومعتقداتنا، وبهذا التصور يكرس البعد الانطولوجي والسوسيولوجي للوظائف اللغوية كما ترسخها الدراسات اللسانية في مباحث العلوم الإنسانية، فالأستاذ محمد زكي بوكرين حين يلج محرابه \ ورشته \ عالمه المفضل، يحدد قضيته تحديدا صارما تلافيا لتشتيت أذهان جمهوره بالخروج عن الموضوع، ثم يضع المفردة من قضاياه بحرفها على طاولة التشريح، ويأخذ ميكروسكوب اللغة فيسلط عدسته على الكلمة لسبر أغوارها المادية والدلالية، سواء في حالة جمودها أو في حالة حركتها، ثم يتعقب تناسلها واشتقاقها وترادفها من منطلق التركيز على تشكلها السجعي، فيخلص إلى ركام زجلي من مفردات موضوعه، ركام قابل للتمسرح ولكن ليس بالضرورة سيخدم قضيته، ينتقي منه ما يخدم هذه القضية ويتساوق مع همها الفني، ويطرح جانبا ما يراه خارجا عنها، لذلك نجد في مونولوجاته تناسلا زجليا غزيرا. وليس كل الاشتقاقات تحظى برضا هذا الفنان المتذوق، كما أنه ليس كل الاشتقاقات بمقدورها أن تفرض نفسها عليه، وتسرب دلالاتها ومعانيها إلى دلالات ومعاني المنتج الذي يشغل باله، فهو الذي يستنبت مزرعة مفرداته في مشتل محرابه، ثم يقطف من هذا المشتل ما يؤثث أعماله الفنية؛ تماما، كالرسام الذي يصطنع ألوانه السيميائية من ألوان أساسية تتيحها الطبيعة لكل الناس، لكن يبقى الرسام فنانا مميزا - كما الأستاذ زكي - ويبقى الآخرون عكس ذلك ما لم يمتلكون مهارات الاشتغال، والقدرة على تحويل الأرق والسهاد إلى إبداع فني، تستقبله مئات المشاهدات بالاستحسان والقبول.     فللنظر كيفية اللعب بمفردة " الصورة " من حيث معناها: " الصورة.. لا أحب الجلوس في المقصورة.. ولا الظهور في الصورة..والظهور لا تظهر في الصورة..الصدور فقط..تظهر في الصورة..والقلوب السوداء خلف الصدور لا تظهر في الصورة..البطون المنتفخة فقط..تظهر في الصورة..والعجين الأبيض داخل البطون المنتفخة لا يظهر في الصورة...فان كانت هذه هي الصورة...حسنوا الصورة". 
 وفي اللعب بمفردة " بنادم " نجد:" قال لك بنادم.. أنا من خدام الدولة.. والدولة.. شحال قدها من خادم..؟؟ واابنادم... واش انت بنادم ولا مشي بنادم؟؟ واش انت بنادم ولا بحال بنادم..؟؟ واش انت بلا دم ولا الحال معاك تنادم؟؟ واش بنادم تقادم؟؟ واش بنادم نعادم؟؟ راه مشي ساهل بش تكون بنادم.. مشي غير ااجي وكون بنادم.. راه كاين شي بنادم.. غير ديال كخ.. وشي بنادم غير ديال الشخ.. وبنادم يكوي ويبخ.. ياكل وينفخ.. ولد اللخ.. مكلخ وما يتشلخ وزايدها بالبخ.. واللي تبع هاذ بنادم..والله مايكساب شي مخ". 
 وفي اللعب على الأسجاع يكتب: "الله الله الله يخليها عيشة.. الخلعة الرعدة  التبوريشة.. بوعو خوخوبلع عايشة قنديشة.. راس الغول ماماغولة والهيشة.. التطليعة التهبيطة والتغوبيشة.. بو خنشة بو خيشة وبوخنيشة...
شا شا شا واش ضارب الشيشة ولا واكل الحشيشة.. را را را هذي غير الضرورة.. شا شا  باسم الضرورة الشعرية والترجمة الحرفية والقافية ارتكبنا كثيرا من المجازر و المهازل واالجرائم الابداعية.. واش عينك فيا.. واش العيب فيك ولا فيا.. و لا ف الظرفية والقضية فالطقية.. والوضوح والشفافية فالكاميرا الخفية.. هدر مع راسك هدر.. الهدرة من الضريبة معفية.. نعود الى الثلاثيات.. ما كاين لا ثلاثيات لا رباعيات لا ستة حمص".
وعلى مستوى براعته في الزجل المسرحي وتوليد الصور الكاريكاتورية، يكتب: "هل أنا مجرد مواطن؟؟، أم مواطن مجرد؟؟...أنا لست ضد النظام.. ولا أخشى تكسير العظام.. وقد مر بهذا البلد أناس عظام.. مشكلتي..في البيدق الذي ضام.. "، ويكتب: "نيبااالا.....نيبااالا....نيبااالا.. هذا هو الشعب.. والا فلا.. قوم الغياطة والطبالة.. يشمو الوردة فالزبالة.. وكلها بوحدو يصوط على كبالة.. ديما.. اورجو.. والرويضة فيها اللجو.. كنعرفو غير نخمجو.. ونتبرمجو.. ما نعرفو نفوجو.. ولا نتفرجو.. ما نعرفو نحجو ولا نحتجو.. غير العينين اللي نعرفو نخرجو.. ما تنقفلوش.. ونقلبو على القفالة.. متنبداوش.. ونقلبو على الكمالة.. يد فاس.. ويد بالة...مرة سبوعة ومرة حوالا.. مرة من والو.. ومرة من والا.. مرة قصر ومرة نوالا.. مرة صلعة ومرة غوفالة.. مرة قرعة ومرة قفالة.. وقمة الحرية كفالة.. وقمة الاخلاق.. سفالة.. وديما ديما.. لما لا.. لما لا.. وعلاش لا.. وعمرنا قلنا لا.. حيث حنا.. نيبااااااالا.. نيبااااالا.. بعض المرات.. الحكومة... تتقرر فشيييي حوايج.. وتتمرر شيييي حوايج.. حكومتنا.. فشيييييشكل.. اما الشعب...نيباااااالا.. وبعض المرات.. الشعب.. تيدمر من شيييي حوايج..تيضرر من شي حوايج.. شعبنا.. فشييييشكل..والحكومة...نيبااااالا.. وبعض المرات.. بوحدهم تيتقروا.. شيييييحوايج.. وتيتمروا شييي حوايج..عندنا شيييي حوايج فشيييييشكل.. ولا شعب.. ولا حكومة.. نيبااااالا.. وكييي لا؟؟؟؟.pam pam ...qui la...c'est moi...entrez.....par ou.........par la.. بام بام... كي لا.. صي موا.. اونتري.. بار او.. بار لا.. واحنا شعب البارلا.. والبلابلا.. وكلشي تحت الطابلة.. رجل لا.. ورجل لا با.. ورجل لا هو.. واللاهو واللاهو.. يدير شي تاويل ديال الخير.. حيت حنا كنديروا شييييحوايج.. وفشيييييشكل.. و نيبااااالا.. نيبااالا...   وفي صور العبث يكتب:" كنفكرو فحاجة ونقولو حاجة ونديرو حاجة اخرى.. وفلاخر ماكنديرو تاحاجة..." ويكتب:" الصّولْ.. والتواصول.. كنحس براسي بحال الى فشي بحر وماعندي لا مايّو لا فوطة لا بارّاصولْ.. كنجول ونصول وفاقد لا بوصول.. الراس مفصول والمخ منصول.. ما زارع.. ما حارث.. ويتسنى المحصول.. بين البدية  والوصول.. كدية وخط متصول.. كنحس براسي عالي وخا فالسّو صول.. وغالي وعندي اصول.. حلال السردين.. ولا حرام الصّول.. وقلة الدين.. وعقوق الاصول.وكثرة اليدّين.. والبنود والفصول.. ومصباح علاء الدين.. كيجول ويصول.. والحاصول.. دورميفو.. ودو ري مي فا صول.. الحاصول.. عندي مشكيل فالتواصول. وكي الكلاكصون كي الكلاكصول .. يا حضرة الصول...". 
وفي تقييمه لحرية الرأي والتعبير، وما ينتج عن رأي وتعبير من يتمتع بهما ومن لا يتمتع بهما يبدع: "ماكاينشاي.. ماكاينشاي..، ما بقا ما يدقال .. ما بقا ما يدار.. أنا بغيت نقول.. داك الشي اللي أنا باغي نكول.. ما شي داك الشي اللي أنت باغيتيني أنا نقول.. وبغيت ندير داشي اللي أنا باغي ندير مشي داك الشي اللي أنت بغيتيني أنا ندير.."، ليناهض الاستلاب، وفي موضوعات الحكومة التي شغلت معظم منجزه، ينجح في رسم صورة قاتمة لأدائها القائم على اللاأداء، ويبسط لوحة ساخرة لثلاث وزراء في وزير واحد، لا يعملون ما يقدر على عمله مواطن في الدرك الأسفل من المجتمع، 
ويكتب أيضا: " يا الواكلين.. بفامنا..التومة.. يا اللي بنادم..عندكوم  جرثومة.. راقم وسومة... ياللي الضحكة عندكم غير مرسومة...والقسمة بلا باقي مقسومة...والامور ديجاا محسومة...والهدية عندكم ديما مسمومة...انتووماا.. واانتووماا.. واش كاين غير انتووومااا؟؟؟..حشومة..هاد الشي اللي ديرو..حشووومة.. خشونة فخشونة..فالقرعة والبوشونة...والا هضرنا..تفرشخونا...كتاكلو الشوك بفمنا...وهمكم عمرو كان همنا...واافهمناا..يا خونا..ونتمناو تكون خونا...فهمنا..وحس بهمنا..واللي يهمنا...فهمنا...بالغنا و بالمعنى...وعرفنا شكون احنا...وشكون ما حناش...احنا ما اكباش ما اوباش..ما ارقام فكناش..احنا غير شعب ما عندو باش...ولا ولاد خالة مول الباش...بلا ما تلعبو معانا ..كاش كاش...بغينا غير حقنا كاش...وعاش عاش..يا الطالعين للجبال ..والدايرين الهبال احناا ما نخافو الحبال...واخا يعضونا الحناش...وعاش عاش...عاش اللي عاش..". 
و في سن التقاعد يكتب: " المتقاعد هو موظف.. كان.....أصبح الآن في خبر كان...اجبره الزمان على ترك المكان...والانزواء في ركن من الأركان...يعيش في فوهة بركان...يتذكر من تنكروا..ويتذكر كيف كان...كان كالنحلة يعمل وكالنحلة يضرب..ويحمل الشارة..كان حبيبا ولبيبا..ويفهم بالإشارة...والآن..ياخسارة..لا تطلب منه حتى الاستشارة...ويباد كالحشرة...وشطب عليه بهذه العبارة...يشطب عليك من اطر هذه الوزارة.....ياريت وياريت...يامالين التمساح و العفريت...يالمشعلين العافية بلا عود كبريت...ياريت وياريت..تفكرو فاصحاب لانتريت...واش لانتريتي..غير واحد قلتو لو ريتي...موت ونيني وتيتي...؟واش المتقاعد موظف بيريمي.؟حدو قرارشطب .. وحفل تكريمي..وكاضو ..براد وبلاطو وحليوات شاطو..او زربية وطابلو..ويمشي عند مرتو تقابلو...اكلوه لحما ورموه عظاما..يمشي يصلي الفجر ويلعب شوية تع الضاما...المتقاعد با الحاج..عندو باكاج..حسوه بانه مهم وكيتحتاج..مشي غير زايد وكيحتاج...ومجرد عداء فماراطون العلاج...ودعونا من سياسة الديباناج و البريكولاج وتورني لاباج....صي لاج...صي لاج..والهلوسااات لا تتقاعد...".
    وهكذا نفسه الزجلي في بقية الكتابات؛ مثل كي فاتح ابريل...كي فاتح ماي...كذبة ابريل..وكذبة ماي..، والتافهون في الأرض \ شطط تلو الشطط ..في استعمال السلط.. وانا اهلوس  فقط \ علمونا..لقمونا..لقنونا..علمونا..العيش بالقمونا \ معاناة استاذ الغذ.. \ البوفوار..\ عجيب...عجيب.. \ واش احنا داجينا .. ولا فكرشنا العجينا؟؟، وغير ذلك كثير مما يعبر عن امتلاك هذا الفنان لمخيلة قوية تمتح من واقع الحياة روحا مسرحية تزخر بالصور الساخرة.  
ثانياـ من حيث الشكل:                                                     
    تنتمي شكليات العرض الفرجوي عند الفنان محمد زكي بوكرين إلى نمط المسرح الفردي، أو المسرح ذو الممثل الواحد كما يحلو للكثيرين من نقاد الفرجة المسرحية تسميته، لأن أقل من يشارك الممثل عرضه هو الجمهور، وبصرف النظر عن بقية المساعدين التقنيين الذين يمكن للمثل الاستغناء عنهم تحت إكراهات وعوامل كثيرة لا داعي لتعقبها، فلا مسرح بدون جمهور حتى على مستوى العرض الافتراضي، هذا النمط الذي تبناه محمد زكي بوكرين، يختلف من حيث شكليات طقوسه عن الرائد أستاذنا المرحوم الراجي محمد تيمد، وعن الفنان عبدالحق الزروالي الذي تألق فيه خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ذلك أن الفنان محمد زكي بوكرين يسلك أسلوب الحكواتي في إطار المونولوج المباشر، مع توظيف كل ما يمكن أن يتأتى له من حيث الملابس والإكسسوارات المكملة، بعيدا عن التركيبات السيميائية التي تفرض ديكورا وألوانا ومؤثرات سمعية \ بصرية، يقع على عاتقها إبراز سينوغرافية المشاهد، وهو بهذا الاختيار، يكون قد حدد انزياح نمطه المسرحي ذي الممثل الواحد، إلى المسرح الفقير أو المسرح النقي حسب البولندي غروتوفسكي، الذي يعتمد مبدأ الاقتصاد في الوسائل والأدوات المسرحية أو الاستغناء عنها بشكل شبه تام، وبذلك أمكن لهذا النوع الفرجوي اكتساح مختلف التجمعات والفضاءات ولو لم تكن مؤهلة للعرض، ولعل هذا أيضا هو ما يبرر ثيمة الخطاب المباشر عند الفنان محمد زكي بوكرين، وعدم تركيزه على الأبعاد السيكولوجية والمورفولوجية والسوسيولوجية لمعظم شخصياته، خاصة وأنه يحول بسرعة كل الأمكنة والفضاءات إلى ركح قابل للتمسرح، ودونما حاجة إلى نشدان العلبة الإيطالية لمعانقة جمهوره، بهذا الأسلوب أيضا، يعمق هذا الفنان مسرح الشارع ومسرح الحلقة ومسرح المقهى والمسرح الافتراضي، وغير ذلك من وسائط التعبير المشهدي البعيدة عن شكليات الفرجة الكلاسيكية، محافظا في جميع تجاربه على فرجة مطبوعة بالتصوير الفني اللاذع، الذي يتقن فيه لغة الملامح، والإلقاء، والاستعارات التي تصنع من كل ما يتأتى له من أدوات معنى جديدا، يختلف عن معناها المتداول بين الناس، فالكرسي والسلم والعصا والجلباب ووو..، كل هاته الأدوات تخرج عن دلالتها الوظيفية لتصبح كائنا مختلفا في مبناه ومعناه، وهذا راجع إلى قوة مخيلته التي تسعفه على تطويع ما يقع تحت يده من أشياء بسيطة، لتصبح إكسسوارات تعمق سيميولوجية الصورة \ اللوحة، وتمرر قضاياه بشكل ميلودرامي، يحول به موضوعاته التراجيدية إلى كوميدية عبث ساخر. 
    وعلى غير العادة التي جرت عليها تقاليد شهادات الاعتراف والتكريم، سأسمح لنفسي بإثارة بعض الملاحظ  حبا في الدفع بمنتج الأستاذ محمد زكي بوكرين نحو المزيد من الإشعاع والتألق، فالأشياء الجميلة دائما هي التي تستقطب انتباهنا، وتفتق شهيتنا للتعليق والكلام، ونحن شعب إذا لم نعلق ونتكلم نختنق أو نموت، ولو كانت الأشياء التي تستقطبنا أكثر جمالا من تصورنا، وسأختزل كلامي في الملاحظ التالية:
الملحظ الأول: ضرورة الاشتغال على التحولات الدراماتوروجية ـ
      أخي محمد زكي بوكرين، لابد أن أبدي لك ملاحظة تتعلق بالتحكم في مراحل منجزك الفني، وتوزيعها حسب تطور المضمون الدرامي تلافيا لرتابة العرض، وضمانا لتحولات مشهدية تجعل المرحلة المتوسطة من المونولوج مختلفة عن سابقتها، وتجعل التي تليها مختلفة عنهما معا، وليس من الضروري إخضاع العمل إلى منهج السرد الكلاسيكي وفقا لهرم الألماني غوستاف فريتاغ، ولكن من الضروري الاهتمام بصناعة التحول والتراكم المشهدي، توخيا للمتعة وشد الانتباه الذين هما هدف البحث الدراماتوروجي، ولو تعلق الأمر بمجرد قصاصة خبرية نلقيها بين الناس، أو مجرد حفل تكريمي أو إجراء مباراة في كرة القدم، أو حتى ولو كان الأمر يتعلق بحفل تأبيني، فالتطور المشهدي يبعث الحياة في العرض ويمنحه زخما سيكولوجيا، ويجعله كنهر ينساب تحت بصر المشاهدين دون أن يملوا من مشاهدته، مع أن مكان النهر هو هو،  والماء هو هو وسرعة الانسياب أو بطؤه هي هي، لكننا لا نستحم في النهر مرتين على قول هيرقليدس، فالذي يحقق المتعة في العرض، ويشد الانتباه إليه، ويجعلنا مقبلين غير مدبرين، ومندمجين غير ناشزين، هو طبيعة التحول اللامرئي واللامدرك، الذي يمنحنا شعورا ميتافيزيقيا بالاقتناع والتشوق لباقي مجريات العرض، بل يلهمنا القدرة على الـتأمل والتحليل والاستعداد التلقائي للبكاء أو الضحك أو التصفيق، والأهم من كل ذلك يبعث فينا الإثارة والإشباع العاطفي.
الملحظ الثاني: ضرورة الاشتغال على الجمل المسرحية ــ         
  الجمل المسرحية كما تعلم أخي زكي هي والجمل اللغوية سواء بسواء، كلاهما تتألف من مفردات ودلالات، وحين يتم تركيب الجمل المسرحية فيما بينها، تنتج صورا ذهنية لدى المتلقى.

      ومفردات الجمل المسرحية، سواء كانت إلقاء أو حركة أو نفسا أو تنفسا أو تلميحا أو إيحاء أو إشارة أو انفعالا..، توظف كل ثانية أو جزء من المائة في الثانية بكيفية تحليلية، لتنتج لدى المشاهد مضمونا معينا هو الذي يستهدفه المبدع، فلاشيء ولا حركة فوق الخشبة زائد أو لا قيمة له، حتى في الارتجال يتم الاعتناء بالتفاصيل الدقيقة، بشكل يجنب الممثل الوقوع في زوائد غير مرغروب فيها، تبعده عن هدفه المتقصد، وتشتت انتباه مشاهديه وتفقدهم التركيز، فالممثل يعي ما يصدر عنه وعيا خارقا، يجعله يتحكم في انفعالاته من غير أن يعي الجمهور أن الممثل يعي ما يفعل، وهذا هو دور التمارين المكثفة على تقنيات التشخيص والأداء؛ ابتداء من التركيز إلى الإيقاع إلى الجسد إلى الصوت.
     فبهذه التقنيات يصنع الممثل جمله المسرحية  الشبيهة أيضا بالجمل التكتيكية عند الرياضيين، كما أن اشتغاله الدقيق على النظرات والأنفاس وحركة الوجه والجبهة والحاجبين والعينين والأنف والفم والرقبة.. كل ذلك مفردات عندما تدخل في تركيب جمله تمكنه من تبليغ رسالته بوضوح، وتجنب العرض مسحة الرتابة، ولو استغرق زمنه أقل من خمس دقائق، لأن معيار الجودة هنا يحتسب بمعايير الفرجة المسرحية التي تحققها، أو بحجم اللإملال الذي يسقط فيه الممثل...
الملحظ الثالث: ضرورة الاشتغال على التحكم في الانفعالات ــ     
    ضرورة التحكم في الانفعالات، وتطويعها بكيفية تعطي لكل حالة من الحالات النفسية ما يستحقه من إمكانيات التعبير، والملاحظ أن الانفعال المسيطر على معظم الأعمال التي أنتجها الأستاذ  محمد زكي بوكرين تسيطر عليها ثيمة العصبية، حتى في الحالة التي يضحك فيها، مع أنه يفرض أن تمنح الضحكة أو النظرة ما تستحقه من مساحة زمنية، والذي لا شك فيه أن هذا المشكل ناجم عن طبيعة التشنج وقتامة البؤر التي تثيرها موضوعاته، إلى درجة أنه عندما يتغلغل فيها تسكنه، وتخترق عقله الباطن ووعيه اللاشعوري. أعرف أن هذا هو صدق التناول، وصدق التفاعل مع قضايانا السياسية والاجتماعية والفكرية التي تستفز المنطق والمعقول، وتكرس فينا الشعور بالعبث واللامعنى، قضايا تتهكم على الحياة وتفقدها سر الوجود، فيصبح اللاوجود أفضل من الوجود وفق جون بول سارتر.
هذا هو الصدق..، ولكن هل يحق للمثل الانصياع إلى صدقه كسائر البشر، فيبدو متشنجا باستمرار؟، متعصبا باستمرار؟، وطيلة لحظات العرض؟.. ألا يرهقه ذلك؟.. ألا يرهق جمهوره؟.. ألا يثقل فقرات مشاهده؟..، وبالتالي يحول فرحة اللقاء وجذوة الحماس في تحقيق فرجة ممتعة، إلى لحظة للتشنج.
      فالممثل هو الذي لا يمثل حين يمثل وإن كان يمثل، وقد حقق مونولوج الحلزون والجزرة أعلى مستويات المشاهدة من قبل الناطقين بالضاد ( إلى نهاية شهر مارس 2017 حوالي 201620 مشاهدة على اليوتوب )


لا لأن العمل وجه ضربات تحت الحزام حسب من يستهويهم منطق الضرب تحت الحزام، بل لأن العمل كان ناجحا ورائعا بالمقاييس الفنية؛ الدقة في توزيع نفس العرض، الهدوء في الإلقاء إلى درجة أن الممثل كان يبدو تلقائيا ومرتاحا أكثر منا نحن المشاهدين، المحافظة على تراكمية البعد الدرامي، التوظيف الذكي لإكسسوارات بسيطة بغائية احترافية عميقة، الاهتمام بسينوفرافية المشهد انطلاقا من تأثيث خلفية الصورة، والتدقيق في تموضع عدسة التسجيل، وانسجام فضاء المؤثرات البصرية بعمق دلالي متجانس.

   وأعتقد جازما أن هذه العناصر هي سر نجاح الحلزون والجزرة، حيث ظهر الفنان محمد زكي بوكرين، متحكما في أدوات الحكي ووسائله، ممسكا خيوط اللعبة بمهارة كبيرة أبان خلالها عن خصوبة المخيلة، وشراسة النقد اللاذع بكل أريحية وهدوء، وبأدب راق في تناول قضية حساسة أخلاقيا ودينيا واجتماعيا.
     وكان وعي الممثل حاضرا بقوة جعلته يتصرف في انفعالاته بكيفية أعطت لكل جملة من جمل المسار المشهدي حقها الوظيفي.
الملحظ الرابع: ضرورة التخلص من بعض المثولوجيات السرية ــ   في أعمال الأستاذ محمد زكي بوكرين بعض الميثولوجيات السرية، أصبحت سيموفونية لازمة في أعماله الأخيرة، وأخذت تفرض نفسها عليه منذ أوغل في مقارعة قضاياه الحساسة بجرأة نادرة، وأضافت إلى أسلوبه جرعة من المباشرة بلغت حد المواجهة الافتراضية، أبرز هذه الميثولوجيات؛
      ميثولوجية الشعور بالخطيئة عند تحليل أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، ومعالجتها مسرحيا بكيفية ساخرة لا تخلو من ألم ومرارة، حضور ميثولوجية سرية من قبيل الإحساس بالخطيئة، تبلورعنه تقاطع المونولوجات واشتراكها في محاولة هذا الفنان الخروج من قفص الاتهام، بإقحام مقاطع حوارية أو عبارات أدبية، تسعى إلى رفع التهمة والدفاع عن النفس في مواجهة خصوم افتراضيين، الشيء الذي دفعه أحيانا إلى توصيف موضوعاته بأنها مجرد تخريف، مع أنها نابعة من هموم إبداعية تعبر عن همومنا الحقيقية، أو توصيفها أحيانا بأنها مجرد هلوسات، يفرضها هوس الكتابة وجنون التمسرح، أو إدراج عبارة محشوة تدعي المواطنة الصادقة والميل إلى الكتابة \ المتنفس والتمسرح لإشفاء الغليل، ونحو ذلك مما يحط من القيم الوظائفية التي تحملها رسائله الإبداعية، ويجرف مضمونها الإصلاحي، بل وتجعل جمهوره يشعر بالصدمة وعدم جدية الممثل في الطروحات التي يعالجها، مع أنه فنان ذو إحساس رهيف، فنان جاد ملتزم بتشريح الآم الصامتين العاجزين عن التعبير منا، أو تمزقات الخانعين المترددين منا، وهو كأي فنان تتلبسه هذه الآلام والتمزقات، فلا يتحمل وطأتها ومرارتها، ولا يستطيع إلا أن يتنفسها حارة \ حارقة \ مارقة \ قاتمة، يزفرها إبداعا  نقديا ساخرا، يتوخى منه تهذيب سلوكنا وإصلاح عيوبنا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بكشف أقنعة الوصولية والانتهازية التي تثير خسطنا على الوطن، مع أن الوطن كائن معنوي دفين فينا، فالفنان الحقيقي الملتزم بهموم وقضايا مجتمعه الحارقة، لا يحتاج لتقديم أوراق اعتماد حبه لوطنه، ولا يحتاج إلى صكوك غفران، ولا يحتاج إلى تصاريح لبوحه الصادق، كما أن الفنان ـ مازحا كان أو مموها ـ لا يشكك ( بفتح الكاف الأول ) فيما ينتج، ولا يرتاب في قيمه الراسخة وأهدافه النبيلة، التي تسعى دائما لتجاوز الكائنات الراهنية بممكنات بديلة أحسن منها وأفضل، والذي يقترف الخطيئة، ويجب أن يشعر بالذنب ليس الفنان، بل هو الصمت القاتل المتواطئ الذي يقيل نخبنا المتعلمة من مهامها ومسؤولياتها التوعوية، ويحول رموزنا المتنورة إلى أشلاء شيطانية صماء بكماء، تنتظر كودو صمويل بيكت على قارعة التاريخ، إضافة إلى ميثولوجية الشعور بالخطيئة، هناك ميثولوجية التعنيف المسترسل لإخراج المتلقي من حالة الاستهلاك إلى حالة الفهم، لكن هذا التعنيف للأسف يحول دون الجمهور وإمكانية الاسترخاء التي يجب أن نحافظ له عليها، يحول دونه وفرصة تخيل وتحليل الصور البليغة التي تزخر بها أعمال الأستاذ محمد زكي بوكرين، وعلى الرغم من أن هذا التعنيف ـ وكما أسلفت ـ متولد عن تشرب واقع يعج بالمرارة، لكن ذلك لا يبرر تعنيف الجمهور وإثارة عواطفه بالقوة، ففهم الجمهور وإدراكه يثار بالسلاسة والسياسة وصناعة الفرجة التي يتلوها السؤال عن الأين والكيف والكم والمتى...

   أخيرا آمل تجميع مقتطفاتك المنشورة على حائطك الفايسبوكي في صيغة تمسرح جزلي، فهي جزل مسرحي بامتياز، تنطوي أحشاؤه على درر غاية في الأهمية، سبكتها قوة تخيلك المسرحي الذي أسأل الله أن يستمر في العطاء، وأن يمتعك بالصحة والعافية وطول العمر. وبالمناسبة فهي مقتطفات فنان صادق باحث ومكابد، يبدع على وقع الإيقاع اليومي المتسم بالسرعة والاختصار، آمل تجميعها وصياغتها بكتابة ركحية تؤكد استمراية الفنان محمد زكي بوكرين وإصراره على الفعل المسرحي، وأخشى ما أخساه، أن يكون هذا النشر، متنفسا يؤثر سلبا على حضورك المسرحي، ويخفض من درجة الهوس ولوعة الحنين إلى فضاء مونطو دارلوكان الساحر.

  خاتمة:  
 

    أشكر كثيرا جمعية محترف الإشعاع للتنمية والثقافة التي أتاحت لي فرصة البوح بحبي واعتزازي بالإخوة المحتفى بهم؛ 

  الشريفة الشاعرة مريم بن بخثة والفاعل الجمعوي السيد بوشعيب موفتي والأستاذ الفنان محمد زكي بوكرين


اليوسفية 24\ 03\ 2017

التحرير النهائي مراكش 08\ 04\ 2017

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية