مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المسرح الرقمي والطبيعة الراديكالية للظاهرة المسرحية

بقلم: عبدالجبار بهم

المسرح الرقمي 
والطبيعة الراديكالية للظاهرة المسرحية

       ما يسم الفنون الجميلة ويمنحها حضورا مميزا ومواكبا لصيرورة الحياة هو طبيعتها الراديكالية، مع ما يرادف هذه الطبيعة من انزياح نحو التشكل الدائم في صيغ متناسلة تتجدد باستمرار؛ فهذه الطبيعة هي التي تمنح الفنون تدفقها صوب أفق واسع، لا تصفده أصفاد ولا تحده حدود؛ هذه الطبيعة هي التي تستحوذ على المعاني والايحاءات فتضخ فيها التوالد والنمو، كما تستحوذ على المباني والمجسمات فتعيد نظمها وأنساقها من جديد؛ فاللحن الموسيقي، وإن سجن في صيغة مكتوبة بنوتة موسيقية ثابتة، لا يتوقف تجدده ولا ينضب إيحاؤه مع كل أداء متكرر، واللوحة المرسومة، لا تفتأ تنتج معاني متجددة كلما نظر إليها ناظر وإن كان عابرا، ولو تراكمت على ميلادها مئات السنين، والمسرحية تلبس حلة قشيبة غير مسبوقة، كلما أعاد الممثلون تشخيصها تمرنا أو عرضا على الجمهور . 
       وقس على ذلك سائر الفنون والآداب والرياضات التي لا تكف تنثر دلالاتها المتوالية، وتبحث لنفسها عن صيغ متطورة ومستجدة، تتناغم مع ذوق المتلقي المفتون برقيه وتطوره، وقد تحولت هذه الأنشطة من فنون وآداب ورياضة إلى ورشات مفتوحة للتجريب المستمر والإبداع المتجدد خدمة للذوق الإنساني، ووفاء للطبيعة الراديكالية الممانعة للركود والخمول.
      وهذا ما جعل الفن المسرحي دائم البحث عن مزيد من أشكال التعبير التي تمنحه شرعية تمثيل الذات الإنسانية والكشف عن آلآمها وآمالها، ولأن هذه الذات عالم مركب، يتداخل فيها الأنا بالآخر، ويختلط فيها زمن مترسب في اللاشعور بآن شاهد منظور وبآت غائب مضمور، فإن المسرح من فرط عشقه للإنسان، لا يكل ولا يمل من تصوير واقعه المعيش، بتجريب أشكال إبداعية بديلة لصناعة أفق مستقبلي يعد بمزيد من السعاد والفرح والمحبة والانشراح، مختبرا أنماطا متنوعة من التجارب الفنية دون مساس بالقيم النبيلة والمكاسب التي راكمها الزمن الماضي، الشيء الذي يجعل كل اللغات وكل الأدوات مستباحة على خشبة المسرح.
     من هنا كان المسرح الرقمي آخر - وليس أخير - حصاد، تجنيها الممارسة المسرحية من طبيعتها الراديكالية، وكان أحدث تشكلات هاجسها التجريبي، الذي مافتئ يؤكد الثنائية الأزلية في الوجود بين الإنسان والمسرح.
      إن السر في ذلك هو أن ظاهرة الحس الراديكالي في الممارسة المسرحية، شأنها في ذلك شأن سائر الفنون والآدآب، تأبى الجمود والتخنذق، تأبى النظر إلى تجارب الماضي كأنه أصنام مقدسة، وفي نفس الآن لا تغوص في الحاضر إلا من أجل اختراق مستقبل مهيب بغموضه ومجاهيله، كل ذلك رغبة في أحسن ممتاز قبل الشبع من حسن جيد، هذا التطلع نحو أفق مستقبلي حالم، هو ما أسمح لنفسي أن أسمه بالبحث عن الممكن في ثنايا اللاممكن، لأن الأمر هنا يتعلق ببحث دائم للتعبير عن أحوال الذات الإنسانية في علاقتها بالعالم من حولها، وبكل ما يحمله هذا العالم من مفاجآت تتراوح بين الواجب والممكن والمستحيل.
     وهذا ما جعل المسرح نفسه بحكم طبيعته الراديكالية ومنطقه التجريبي، ظاهرة تفاعلية، تستوعب للغات العالم المعاصر بكل منجزاته الرقمية وفتوحاته التكنولوجية؛ فالمسرح صادق ولا يناقض نفسه لأن تطلعه إلى المستقبل، يجعل منه كائنا راديكاليا مستعدا لاحتضان الجديد وتطويعه، وفي نفس الآن، يجعله مستعدا للتمرد عليه وتجاوزه في كل لحظة وحين.
     لذلك لا يسعنا إلا التهليل لمختلف الأعمال التجريبية في المسرح، ولو كانت - أحيانا - تمس  بديهياته وأبجذيته المعهودة، وليس لنا إلا أن نقول: "حلت مختلف التجارب المسرحية أهلا، ووطئت سهلا، وقيل لها مرحبا".. لا لشيء، إلا لأن المسرح في جوهره رؤية متجددة للحياة والناس والأفكار والقيم، وعلى قول رامبو: إن اكتشاف ما لا يعرف يفرض أشكالا جديدة من التعبير. وفعلا، إن الجديد يفرض صيغا جديدة للمسميات والتصورات والمفاهيم، وأشكالا جديدة للإبداع والتعبير والتواصل، كل ذلك من أجل التأسيس لمعاني وقيم مستحدثة، هي حتما ستنحاز لرفاهية الإنسان وسعادته، وإذا كان الإنسان المعاصر قد ارتدى جبة رقمية غلفت مختلف مظاهر حياته، وجعلته - وهو في قمة التطور - يعيش عالما جديدا...، يحيا وينام، يأكل ويشرب، يقرأ ويكتب، يتأمل ويفكر، يواصل ويقاطع، يهلوس ويحلم،... كل ذلك بلغة رقمية، فلماذا - إذن - لا تحتضن الظاهرة المسرحية ـ بحكم طبيعتها الراديكالية ـ هذا العالم الرقمي، بل وتجره طوعا أو كرها إلى دائرة التجريب؟؟...

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية