مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

تأبين والدتنا المشمولة برحمة الله


        إلى الولدة المشمولة برحمة الله
كل نفس ذائقة الموت، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام... العين تدمع والقلب يحزن ويجزع، ولا نقول إلا ما يرضي الله ورسوله، إنا لله وإنا إليه راجعون، "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون"، الله اكبر والله اكبر، ولا يبقى إلا وجه الله الحي الأزلي الذي لا يموت...
        الآن وفي مثل هذا اليوم، وقبل الأربعين ليلة مضت ماتت أمي، السيدة الفاضلة الأنيقة النظيفة المتواصلة المؤمنة الضحوكة الحاجة فاطمة سفناج بنت محمد عن سن تناهز الثلاث والتسعين سنة، ماتت بعد أن ألزمها الوهن فراشه أكثر من أربع سنوات، وإحياء لهذه الذكرى الأليمة، أجد نفسي مرغما على الكتابة لأقول لها: إلى اللقاء أمي العزيزة، أنت وأبي وموتى المسلمين السابقون ونحن ومن يلينا اللاحقون، فقط أسال الله أن ننجز مهماتنا بنجاح وسلام وذكر حسن كما فعلتم، أما الموت فقدرنا جميعا فمرحبا به..   
        مرحبا بالموت إذ يزورني .. فأهديه مؤمنا بقدري أعز ما أملك، أمي التي اخترتها بأمر الله... مرحبا بك أيها الموت... وطئت سهلا، وأنت الشبح غير المرئي، وحللت أهلا غير راغبين فيك، وأنت الضيف المخيم حزنه في شرايين ضحاياك، ضيف ثقيل ولو كنت رحمة بهم ونعيما لبلائهم من جحيم الدنيا.. مرحبا والأنف في التراب، ولا نملك إلا أن نقول مرحبا... مرحبا يا قدرنا الفرج ويا فرجنا المحتم المشؤوم... إننا لا نخافك، فأنت لا تفنينا، وزيارتك لا ترهبنا ولا تثنينا عن محبة الحياة، إننا لا نهابك لأننا لا نهاب إلا الله، فالله الذي صنعك صنعنا نحن أيضا... والصانع أدرى بسر صناعته، وأقدر على مدها بالحياة إلى حيث شاء، وهو الأدرى والأقدر على إفنائها ولو بعد حين إذا شاء... وأنت أيها الموت، ويا أيها الجبان المتلبس بالعتمات، فلست إلا صناعة لصانع يتعالى عنك علوا كبيرا.. أنت أيضا ستموت كما نموت، وكما أمت أمي قبل أربعين ليلة من هذا اليوم... وأبي قبل ثلاثا وثلاثين سنة، ستموت أيضا كما نموت، إلا أننا الأنقى والأطهر منك، فنحن حين نموت لك يد في موتنا، ولا يدنا لنا نحن في موتك، لذلك تدمع عيون علينا ولا تدمع لموتك عيون...
    سنموت جميعا ولن يبقى إلا وجه ربي وربك ذو الجلال والإكرام أيها الموت... ستموت غير مأسوف عليك، يا مفرق الأحباب وكاشف الخلان والأصحاب، يا مفجر الآلام وناثر الدمع بين الأنام،  ويا دموع الأيتام ويا أنين الثكالى  والأرامل... ستموت، أي نعم ستموت، وسنكون شامتين فيك أحياء وموتى، ستدرك أيها الموت حينها مرارتك فينا، ستدرك كم نتقاسم نحن وأنت نفس الألم واللوعة التي تحدثها زيارتك فينا وفيكـ، ولنا عزاؤنا ولا عزاء لك؛ عزاءنا أنك الألم الأخير فينا، وأنك الألم المتكرر في نفسك قبل ألمها الأخير..
     قبل أربعين ليلة من هذا اليوم... ماتت أمي التي عانقت استهلال وجود بدمع الفرح، وصنعت من ألم مخاضها ونزيف النفاس زغاريد ميلاد جديد كان ميلادي بعد من سبقوني في الاستهلال؛ ما كانت أمي ترجو إلا أن تضيف اسما جديدا في مملكة زوجها الثقي الورع الحاج عمر بن علال رحمه الله وطيب تراه، لم يكن يهمها شيء بعد ذلك؛ قد أصير طفلا وقد أموت كمن مات قبلي من أطفالها فلا أصير، وقد أتحول فتى يافعا سليما معافى أو لا أتحول، وقد يتشبب الفتى أو لا يتشبب، ثم قد يكون رجلا أو لا يكون، بارا وفيا حانيا عليها ذليلا بين يديها، أو لا يكون.. مجرما يعتاش ويرتزق من ثدي جف رحيقها أو لا يكون، المهم عندها أن يكون من الوجع والمخاض والدمع شيء تناديه لحظة الوهن ابني.. ولحظة الألم ابني.. ولحظة العزلة والاغتراب ابني.. ماتت من عانقتني حلما ورديا ولم تترقب؛ أيكون الحلم حقيقة أو وهما أو لا يكون.
     ماتت أمي التي بموتها يموت آخر كائن عابث في أعماقي، ويستيقظ الكائن الحذر الذي ليس له وجاء، وكيف لكائن ساه لاه أخرق أن يكون له حظ في الوجود، وقد صارت حصونه عرضة للمخاطر والأهوال، كيف يمكن لهذا الكائن الغافل أن يحيى بين حوانحي وقد ماتت من كانت تقيه وباسم الله ترقيه، تحميه بالزفرات وأنين التضرع الذي تفتح له السماوات وتنفرج به المغاليق.
     ماتت أمي التي كانت تدعو لي من غير أن أسمعها، وتحس بوجودي إلى جوارها دون أن تلتفت لتراني، ماتت التي لا تمل انتظاري أتيت متأخرا أو لم آت، تحبني من غير أن أعطيها، وتعطيني من غير أكشف حاجتي واحتياجي، ماتت التي تستقبلني بفرح طفولي؛ تقفز.. تنط.. تزغرد وتغني وتسترجع من خلالي ذكرياتها التي لا يزيدها الوجع والمرارة إلا لذة وحلاوة، وحين أهم بالرحيل تترنح كمن يرفض الحرمان من حلمه السعيد، حين أغادرها يتفاقم جزعها... تودعني مرغمة ملتفة على إظهار حزنها بالدعاء والتواعد باللقاء.. ماتت التي كانت أطهر الناس وألطف الناس وأرحم الناس وأطيب الناس، تأمر بالتواصل والتراحم والمعروف... فمن ذا الذي يفعل ذلك بعدها، من ذا الذي سيذكرني في صلاته ونسكه من غير أن أوصيه، ومن ذا الذي سيتظاهر بالشبع والارتواء من قبل أن أشبع وارتوي وإن كنت لا أهتم له أو أجافيه..
     سيدتي ويا أيتها الغالية علي من دنياي... إن كنت علمتني الحرف فكيف لا أرثيك، أو كنت أرضعتني محبة العلم فكيف لا أبكيك،
      سيدتي ويا أيتها الغالية علي من دنياي... إن كنت حملتني لحفظ القرآن فكيف لا أرتله عليك ترتيلا وأنت تلجين عالمك الجديد الذي يضيئه ويطهره القرآن، أسأل الله أن يكون معبرا واطئا يسيرا إلى الجنة؛ طيبا منيرا فسيحا مريحا ورياضا من رياضها.
      سيدتي ويا أيتها الغالية علي من دنياي...إن كنت جعت لتطعميني فكيف أطيق أن أطعم عزاءك، وأشرب نخب الود على فراقك، وكيف أطيق أن أرى مكانا لست فيه وقد كنت إنما أراه لأجلك... وما أكاد أصدق أنك رحلت إلى دار البقاء وتركتني وأنت الأدرى بعجزي وقلة حيلتي..
      ما من شيء أصبح سائغا بعدك... لم يعد الهاتف يفزعني كما كان قبل خبر رحيلك، ولا الغد الذي لست فيه ما عاد يشغلني، لم يعد لي حيث كنت، مكان ذو قيمة بعدك أحنو إليه، ولا زمان ذو قيمة بعدك أرنو إليه، لم يعد لي هناك مخلوق أدمي آثرت بنفسك العالية المتعالية أن يأويك، فالتف عليك ليحميك أو يدميك أو يعجل لك بالرحيل، لم يعد يروق لي مربطك العزيز وقد سلبتيه قبل أن تموتي، ولا بيتك المرتب النظيف الأنيق وقد اغتصبت أركانه وتلطخت قدسيته قبل أن تموتي، أشياؤك الجميلة، تحفك البسيطة الراقية، حليك الرائعة الأنيقة، ماتت في ناظري من قبل أن ينتزعك الموت مني...
      سيدتي ويا أيتها الصديقة الغالية التي لم تكن فقط أمي...ويا أيتها الحبيبة النادرة التي لم تكن فقط أمي... يا سندي وسر قوتي وشعلة ابتهالي وتوهجي وابتهاجي، بعدك ما عاد للحياة طعمها الذي تذوقته من قبل، ولونها الذي ألفته من قبل، والرائحة التي عهدتها من قبل، كنت أدرك أنك حتما ستلبين نداء الخالق كما يلبيه سائر المخلوقين وتموتين، لكن لم أكن أدرك أن للموت آلاما حادة تفوق آلآم الاحتضار، وربما كنت وأنت التي تستقبلين موتك أسعد حالا من الموت نفسه إذ ينفذ فيك قضاء الله، وربما كان حالك أسعد من حالي...
     الآن أيتها الأم الملاك، وقد صرت تحت التراب وأنا فوقه، والجنة تحت قدميك لا تحت قدمي، فكيف أصل إليها إن أخفقت في ذلك قيد حياتك من غير أن أدري، والآن والحزن يطوقني برحيلك، وقد أوصد الله بابا من أبواب الجنة، فكم يلزمني من العمل الصالح بعدك مفتاحا لأدخلها.
     عزائي فيك يا أمي أن أدعو لك، وأسأل الله القبول إن نلت شرف الولد الصالح الذي يستحق أن يدعو لميته... فاللهم بدل أمي أهلا خيرا من أهلها، وولدا خيرا من ولدها، وبيتا خيرا من بيتها، ومالا خيرا من مالها، وذهبا خيرا من ذهبها... اللهم تقبلها عندك القبول الحسن، وأكرم نزلها، وبدل سيئاتها حسنات، واجعلها من الحوريات، وطهرها من الذنوب والخطايا كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس بالماء والبرد والثلج، اللهم عوضها عن كل ألم تألمته من أجلي لذة أبدية، وعن كل سهر سهرته نعيما لا يزول، اللهم خذ من حسناتي وزد في ميزانها، فهي الأحوج إلي وقد رحلت عن دنياي، وأنا المطالب ببرها بعد الرحيل... اللهم أسعدها بلقاء والدي في الجنة، واغفر لهما وارحمهما كما ربياني صغيرا، اللهم اجعلها وأبي من الشهداء والصالحين واجعلهما من المشمولين بقولك الصادق: ياعبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.     
       

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية