مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المرجو من زوارنا الأعزاء مشاركتنا الرأي بالنقد والتوجيه لإثراء النقاش من أجل تنمية ثقافتنا القانونية والأدبية والفنية.

أهمية اللغة العربية أمام المحاكم المغربية

      أهمية اللغة العربية أمام المحاكم المغربية

تقديـــــــــــــــم

     تعرف اللغة العربية مركزا مميزا في العمل القضائي المغربي، ليس فقط بوصفها أداة تواصل للترافع والأحكام، ولكن أيضا بوصفها ثابتا من ثوابت المجتمع، تسعى القوانين والأحكام إلى حمايتها وضمان تداولها، لذلك فحضور هذه اللغة في الجلسات والمداولات والأحكام هو حضور لهوية الإنسان المغربي، بما تنطوي عليه هذه الهوية من أبعاد نفسية واجتماعية وتاريخية. 
      وإذا كان القانون قد ضمن حق الترافع للمواطنين والأجانب على حد سواء، وأتاح للجميع مختلف وسائل الدفاع والإثبات على تنوع أشكالها ولغاتها؛ في وقت أصبح القضاء ينهض بتنشيط دواليب الاستثمار، ويعالج في اليوم الواحد مئات الوثائق المحررة بلغات أجنبية- قلت، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الأهمية بمكان أن نتساءل عن المركز الذي تحتله اللغة العربية في العمل القضائي من خلال صناعة القوانين وتدبير المنازعات؟.

The importance of the Arabic language before Moroccan courts

      وفي هذا الاطار تقترح هذه المساهمة على قراء صفحة “دراسات قانونية” من جريدة الصويرة نيوز الإلكترونية  جملة من النقط يمكن اختزالها فيما يلي:

النقطة الأولى: اللغة العربية في الضمير الجمعي

      تلتصق اللغة العربية في وعينا الجمعي بتكوين عقيدي، يتأسس داخل وجداننا على الإيمان بأنها اللغة الكونية التي تتجاوز عالمنا المرئي، وبأن اختيارها وعاء للوحي في آخر تنزلاته لم يكن عبثا، وأن أبعادها البيانية وبناءها المادي مكناها من التفرد، وجعلاها لغة الضاد كما يحلو لبعض اللسانيين أن يسميها، وهي فوق كل شىء لغة القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين؛ لقوله تعالى: ” نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين”(1)، ولغة السنة لقول النبي صلعهم:” أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش”(2)، لذلك تغلغلت في كيان المجتمع المغربي منذ فجر الدعوة الإسلامية، وكان الإقبال عليها أشبه ما يكون بحالات التعبد والتقرب إلى الله، وظلت هذه اللغة ماثلة في كيان الأمة، راسخة في مخيلتها الثقافية، وتمثلاتها الأدبية ودواوين سلاطينها، فصارت تبعا لذلك لغة القانون الأسمى في الدولة منذ دستور 1908، الذي تنص مادته 18على ضرورة التعرف على العربية كتابة وقراءة، واعتبار ذلك شرطا لولوج الوظيفة العمومية، وورد في ديباجة الدستور الأخير الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.96.157 المؤرخ ب 23 من جمادى الأولى 141- 7 أكتوبر 1996 أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد؛ أي أنها لغة الإدارة والتشريع والقضاء.

النقطة الثانية: اللغة العربية في السياسة القضائية

     شكل الظهير الشريف رقم 64 – 3 المؤرخ في 26/01/1965 بشأن توحيد المحاكم(3) محطة تاريخية بارزة في توحيد اللسان المغربي إدارة وقضاء، فاستحق أن ينعت بظهير التعريب والمغربة والتوحيد، حيث أحدث انقلابا جذريا في لغة القضاء الذي كان مقسما شكلا وموضوعا إلى أكثر من لغة، اقتصرت فيه اللغة العربية على هامش ضيق تمثل في القضاء الشرعي الذي كان عربيا صرفا، أو القضاء المخزني متى تعلق الأمر بالترافع أمام القائد أو الباشا في درجته الابتدائية، في حين ظلت اللغة الفرنسية أو الاسبانية مهيمنتين معظم المحاكم المغربية إلى غاية الاستقلال، ومنذ سنة 1965 أصبحت العربية هي اللغة الرسمية للقضاء والتقاضي لدى المحاكم بجميع أنواعها وعلى مختلف درجاتها، واستثني من ذلك فقط العقود المحررة باللغة الفرنسية والتي يخضع تقييدها للسجلات التجارية بمحاكم المملكة، وقد كان للقرار الذي أصدره وزير العدل بتاريخ 29 / 06 / 1965 دور بالغ الأهمية في تفعيل مقتضيات الظهير المذكور، إذ تكرس على إثره الاتجاه الرسمي العام في العمل باللغة العربية كلغة للمقالات والمذكرات والمرافعات والمداولات والأوامر والأحكام.

     ويمكن الوقوف على فلسفة المشرع من السياسة القضائية الذى جاء به ظهير1965 فيما يلي:

  1. – التوحيد: ويرمي إلى تجميع الفسيفساء التي طبعت العدالة خلال الحقبة الاستعمارية، وصهرها ضمن وحدة شاملة للقضاء بعيدا عن التنوع الأيديولوجي والعرقي والديني والطائفي الذي استحكم في مسيرة العدالة ببلادنا إبان الحقبة الكولونيالية، ولذلك نص الفصل الأول من هذا الظهير” على أن جميع المحاكم المغربية باستثناء المحاكم العسكرية والمحكمة العليا للعدل المنصوص عليها في الفصل السابع من الدستور، أصبحت موحدة في المملكة المغربية بمقتضى هذا القانون”، وبذلك ألغى قانون التوحيد كل المحاكم بما في ذلك المحاكم الدينية المسلمة منها واليهودية، وصارت المحاكم الموحدة هي المختصة بالنظر في القضايا التي كان اختصاصها مسندا إلى المحاكم الملغاة، ومن أبرزها المحاكم التقليدية والمحاكم القنصلية، والمحاكم المخزنية.
  2. - المغربة: وترمي إلى تأصيل المنظومة القضائية ببلادنا سواء على مستوى مواردها البشرية أو على مستوى مرجعياتها المعتمدة في الحكم وفض المنازعات(4)، وهو ما يفسر بوضوح حملة الترجمة والاقتباس التي عرفتها المرحلة الموالية لصدور الظهير والقرارات المواكبة له، وما يهمنا في هذا العنصر هو طبيعة الترجمة والاقتباس التي اصطبغت بهاجس التعريب وتحويل القوالب اللغوية للقوانين السارية المفعول آنذاك من الفرنسية أو الاسبانية إلى العربية.
  3. – التعريب: ويرمي إلى اعتماد العربية لغة للترافع والتداول والحكم، مع جعل الترجمة(5) آلية للتواصل بين الأطراف التي لا تجيد اللغة العربية من أجل ضمان حق الدفاع للجميع، وتوفير شروط المحاكمة العادلة، فأين يمكن مركزة اللغة العربية في العمل القضائي ؟.

النقطة الثالثة: الأسماء المحررة باللغة الأجنبية في المقالات والمذكرات

       تبعا للفصل 32 من ق.م.م.يعتبر تضمين المقالات بأسماء الأطراف وصفاتهم من الشروط الشكلية الاجبارية لقبول الدعوى، و إذا كان أحد الأطراف شركة وجب أن يتضمـن المقال أو المحضر اسمها و نوعها و مركزها “، لكن إذا تعلق الأمر بأسماء الأعلام أو بأسماء تجارية، فينبغي كتابة حروفها باللغة العربية كما تنطق باللغة الفرنسية، ولا يجوز كتابتها بالحروف الفرنسية كما هي، كما لايجوز ترجمة معانيها إلى العربية، فلو فرضنا أن اسم المدعي أو اسم المدعي عليه هو France de cafe، فان تضمينه بالمقال الافتتاحي أو بالمذكرات المقدمة إلى المحكمة يراعى فيه مبناه لا معناه، فيكتب بالحروف العربية على الشكل التالي: كافي دو فرانس عوض مقهى فرنسا؛ وذلك لمجموعة من الاعتبارات، أولها أن أسماء الأعلام أو الأسماء التجارية، تكتب كما تلفظ حفاظا على حقوق الاسم كما لفظ ودون بالمكتب المغربي للملكية الصناعية(6). وثانيها أن ترجمة الاسم من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية يعد عملا قانونيا يدخل في اختصاص التراجمة المحلفين، وليس من اختصاص المدعي أو المدعى عليه أو محاميهما، وثالثها أن هذه الترجمة تخضع لمسطرة خاصة، كإعادة تسجيل الاسم في صيغته وألفاظه الجديدة لدى المكتب المذكور، والتصريح بذلك لدى مصلحة السجل التجاري. ورابع هذه الاعتبارات هو أن إدراج اسم المدعي أو المدعى عليه في المقال أو المذكرة، وبنفس صيغته الفرنسية يحدث نشازا لغويا في البناء المادي لهما، ويتعارض مع مقتضيات ظهير 1965، وفي هذا الصدد صرحت المحكمة التجارية بمراكش بتاريخ.03/ 04/ 2007 في ملف الأمر بالأداء عدد 150 /2 / 2007بعم قبول الطلب الرامي استصدار أمر بالأداء بحيثية” أن اسم المدعى عليها جاء مكتوبا بالفرنسية خلافا لما هو منصوص عليه في قانون المغربة والتوحيد مما يستلزم التصريح بعدم قبول الطلب”(7).

النقطة الرابعة: المرفقات المحررة باللغة الأجنبية بالمقالات والمذكرات

      لاشك أن مثول الأجانب بين يدي القضاء وادلائهم بتصريحاتهم أصبح دأبا مألوفا ومكرسا في العمل القضائي، لاسيما وأن جل القضاة يتوفرون على دراية باللغات الحية، تشرف جهازنا القضائي وتؤكد انفتاحه وانخراطه في معركة التنمية والتحديث، بل انه حتى في الحالات النادرة التي تنعدم فيها الدراية المطلوبة باللغات الأجنبية، فان إعمال آلية الترجمة الفورية داخل المحاكم، أسهم بشكل كبير في طمر الهوة اللغوية بين المتقاضين والهيئة القضائية، وهو أبرز تجليات المحاكمة العادلة كما تنشدها القوانين الوطنية والمواثيق الدولية.

     وإذا كان تحرير المقالات والمذكرات المدلى بها لدى المحاكم باللغة العربية لا يثير أي إشكال منذ دخول ظهير المغربة والتوحيد والتعريب حيز التنفيذ، فان مسألة تحرير الوثائق المرفقة بها طرح إشكالا قضائيا يمكن اختزاله في التساؤلات التالية: ما موقف العمل القضائي من الوثائق المرفقة بالمقالات والمذكرات المحررة بغير العربية؟ وهل يمكن للقاضي أن يبت في الدعوى اعتمادا على هذه الوثائق؟ وإذا كان الجواب نعم طالما أن القاضي له إلمام باللغة التي حررت بها، فما هو الحل إذا كانت محررة بلغة يجهلها القاضي؟ وفي جميع الأحوال، هل يعتبر تحرير الوثائق باللغة العربية من النظام العام الذي يثيره القضائي تلقائيا، أم أنه حق من حقوق الأطراف الذين يمكنهم إعماله أو إهماله؟.

     تقتضي الإجابة عن هذه التساؤلات أن نقف على مجموعة من المحاور تناولها قرار المجلس الأعلى عدد 1346 الصادر عن الغرفة التجارية بتاريخ 28/12/2005 في الملف عدد 87/3/1/2002 الذي ورد فيه ما يلي:” حيث تنعى الطاعنة على القرار المطعون فيه خرق قانون المغربة والتوحيد والتعريب وقانون المسطرة المدنية والدستور وحقوق الدفاع، ذلك أنها أثارت كون الوثائق المرفقة بالمقال الافتتاحي غير محررة باللغة العربية، وأن القاضي الابتدائي لم يأمر بترجمتها لتلك اللغة، وأن قانون 1965 المتعلق بالمغربة والتعريب وكذا الدستور المغربي وحقوق الدفاع توجب أن تكون جميع المذكرات والوثائق المدلى بها أمام القضاء محررة باللغة العربية، وأن مقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام ويجب الالتزام بها وعدم مخالفتها من طرف القضاء بصفة تلقائية حتى ولو لم يتمسك بها الأطراف، وأن رسمية اللغة العربية، كما ينص على ذلك الدستور، تقتضي أن تكون المستندات المقدمة إلى القضاء محررة باللغة العربية أو مترجمة إليها، كما تستلزم ذلك العديد من القوانين ومنها قرار وزير العدل رقم 64-414 الصادر بتاريخ 29/06/1965 وقانون المسطرة المدنية الجديد في الفصول 65 و 126 و 351، وما ذهب إليه القرار من أن قانون المغربة لا يتضمن ما يفيد ترجمة الوثائق هو تفسير خاطئ، إذ القانون يكمل بعضه البعض الآخر ومحكمة الاستئناف بردها الدفوع التي أثارتها ( الطاعنة ) تكون قد خرقت عدة نصوص تشريعية وعرضت قرارها للنقض.حيث إن المحكمة مصدرة القرار ردت الدفع المثار من الطاعنة بشأن ترجمة الوثائق المرفقة بالمقال إلى اللغة العربية” بأنه بالرجوع إلى قانون 1965 المتعلق بالمغربة والتوحيد نجده ينص على أن المرافعات والمذكرات هي التي يتعين أن تكون باللغة العربية وليس فيه ما يفيد ترجمة الوثائق”، في حين أن قرار وزير العدل رقم 65-414 الصادر بتاريخ 29/06/1965 تضمن” أنه يجب أن تحرر باللغة العربية ابتداء من فاتح يوليوز1965 جميع المقالات والعرائض والمذكرات وبصفة عامة جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم”، مما يكون معه القرار قد خرق مقتضيات القرار المذكور وعرضه للنقض”(8).

           من خلال قراءة هذا القرار نخلص الى بمجموعة من الملاحظ يمكن إجمالها فيما يلي:

  •      الملحظ الأول: ركز قرار المجلس الأعلى في حيثياته على أن محكمة الاستئناف التجارية بالبيضاء خرقت مقتضيات قرار وزير العدل رقم 65-414 بشأن وجوب اعتماد اللغة العربية في جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم، وهو ما يفهم منه أن قرار وزير العدل أصبح بمثابة قانون واجب التنفيذ وان لم يصدر عن الجهة التشريعية، طالما أنه يستند إلى نص تشريعي هو الدستور وظهير 1965، إذ أن صدوره عن الجهة الوصية عن قطاع العدل، وفي ظل الظروف التاريخية التي خرج فيها الظهير المذكور إلى حيز التنفيذ، يكسب القرار قوة قانونية ترقى به إلى مستوى القاعدة الآمرة، الشيء الذي عرض قرار محكمة الاستئناف التجارية بالبيضاء إلى النقض.
  •      الملحظ الثاني: من جهة أخرى نلحظ قرار المجلس الأعلى عمد إلى إهمال باقي المدفوعات الشكلية التي وردت في حيثيات الوسيلة الأولى، لاسيما ما يتعلق منها بالطبيعة القانونية لعملية الترجمة؛هل هي من صميم النظام العام الذي يتعين على القاضي إثارته تلقائيا، أم هي حق لأطراف الدعوى يمكن لهم التمسك به أو التنازل عنه؟.

         في النازلة التي بين أيدينا لم يأمر القاضي الابتدائي بترجمة الوثائق إلى اللغة العربية رغم أن المدعى عليه تمسك بذلك، بل انه تمسك به حتى في المرحلة الاستئنافية لكنه جوبه بتفسير خاطئ حسب تعبير المجلس الأعلى، وينكن أن نتساءل في حالة ما إذا لم يتمسك الطرف بهذا الحق، هل يكون القاضي ملزما بإثارة هذا الدفع تلقائيا؟

         في قضية سابقة، يجيب المجلس الأعلى عن هذا السؤال بالنفي، إذ ترى غرفته المدنية في قرارها عدد 1579 بتاريخ 17 / 06 / 1992” أن من حق المحكمة بل من الواجب عليها الرجوع إلى وثيقة قدمت لها بصفة قانونية لمعرفة مضمونها ما دامت آنست من نفسها القدرة على فهمها دون الاستعانة بمترجم، وما دام أن اللغة العربية إنما هي مطلوبة في المرافعات وتحرير المذكرات لا في تحرير العقود والاتفاقات”(9)، وهو نفس الموقف الذي تبناه بصيغة مغايرة، قرارصادرعن محكمة الاستئناف التجارية بمراكش حين ذهب إلى تعليل عدم الاستجابة للدفع المثار بشأن ترجمة حجج الخصم بما يلي:” وحيث فيما يخص السبب الثالث المتخذ من خرق قانون المغربة والتعريب لكون المحكمة اعتمدت حجة كتبت باللغة الفرنسة. لكن حيث أن النص المستدل به يتعلق فقط بالمرافعات أي المستنتجات وليس فيه ما ينص على أن تكون الحجج باللغة العربية، وبالتالي فان هذا السبب غير منتج”(10).

  •       الملحظ الثالث: من جهتنا نميل إلى الاعتقاد بأن الموقف الذي تبناه المجلس الأعلى سنة 1992، لايتعارض مع الموقف الذي تبناه سنة 2005، إذ يبين أن القاضي متى آنس في نفسه القدرة على فهم الوثيقة المقدمة إليه، حكم بمقتضاها متى لم يطلب الطرف ترجمتها تلافيا لإضاعة الوقت، فان طالب بذاك – وهذا حقه – ألزم القاضي بالاستجابة للطلب، وهذا هو المضمون الناتج عن عملية الدمج أو الجمع بين القرارين، وهو تعبير صريح عن دينامية العمل القضائي إزاء إشكالية تأخذ باهتمام الجميع، وتشكل هاجس كل المغاربة في وقت يحاول فيه أخطبوط العولمة التهام جميع الثقافات واللغات والأعراف والتقاليد.

  •   الملحظ الرابع: وإذا كان هذا الموقف الذي تبناه المجلس الأعلى، وبعد حوالي ثلاثة عشرة سنة من التحولات والتطورات التي عاشها المغرب، يعبر عن راديكالية الفكر القانوني ببلادنا حيال مركز اللغة العربية في العمل القضائي، فانه في نفس الآن لا يحسم المسألة من جذورها، لاسيما إذا تعلق الأمر بالسؤال التالي: هل الدفع بترجمة مرفقات المقال والمذكرات إلى اللغة العربية من النظام العام؟، وما هو الحكم إذا أمر القاضي بترجمتها إلى العربية ولم يدعن المطلوب بذلك لهذا الأمر؟.
        لذلك لا نرى مانعا من القول بان القاضي ابتدائيا كان أو استئنافيا، متى عرضت عليه وثيقة محررة بلغة أجنبية فانه يكون ملزما بإصدار أمر بترجمتها إلى العربية، لا لكونه لا يجيد اللغة التي حررت بها هذه الوثائق, ولا لكونه يسعى إلى ضمان حق من حقوق الدفاع الذي تنازل عنه الطرف بمحض إرادته، ولكن إنما يأمر بذلك حماية للقانون، وتفعيلا لمقتضيات الدستور ومقتضيات ظهير 1965 وقرار وزير السالف الذكر.

النقطة الخامسة: الوثائق الإدارية المحررة باللغة الأجنبية

     في حالة مماثلة من حيث الإشكالية المطروحة بين أيدينا، وتتصل بمركز اللغة العربية في العمل القضائي، لكن ليس من حيث النظر إليها كلغة وظيفية داخل الجهاز القضائي؛ أي باعتبارها لغة المقالات والمذكرات ومرفقاتهما ولغة المداولات والنطق بالحكم، بل من حيث موقف القضاء منها كلغة وظيفية داخل المجتمع؛ وبمعنى آخر،ما المنحى الذي سار عليه العمل القضائي إزاء تحرير الوثائق الإدارية باللغات الأجنبية دون اللغة العربية؟.

    إذا كان المسؤولون الإداريون يؤكدون باستمرار على” أن معظم الإدارات تلزم باستعمال اللغة العربية في مراسلاتها ومحرراتها ومحاضرها، خصوصا في قطاع القضاء والمحاكم والشرطة وعموم المصالح العمومية التي لها علاقة بالمواطنين”(11)، فان العمل القضائي إزاء هذه المسألة يتصف بالواقعية، وعدم التماهي مع الأبجديات السياسية، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال الطرح الذي تبنته المحكمة الإدارية بالرباط، حين ذهبت إلى أن استعمال اللغة العربية في مراسلات الإدارة المغربية لايكون واجبا إلاعندما يتمسك المواطنون بذلك، لكن في نازلة مثل هذه قضت نفس المحكمة برفض الطلب الرامي إلى التعويض عن عدم التزام الإدارة ببث البرامج التلفزية باللغة العربية، معللة ذلك بما يلي:” إنه ولئن كانت اللغة العربية الرسمية للمملكة المغربية ، إلا أن بث التلفزة المغربية بعض البرامج باللغة الأجنبية وخاصة اللغة الفرنسية يرجع إلى عدة أسباب تقنية ومادية وثقافية، وإن إزالة هذه الأسباب تتم حسب الإمكانيات المتاحة، وفي ظل ذلك يكون طلب المدعي الرامي إلى تعويضه عن حرمانه من البرامج التي تبثها التلفزة المغربية بلغة أجنبية غير مرتكز على أساس قانوني وواقعي سليم”، وبعد استئناف هذا الحكم أمام الغرفة الإدارية لدى المجلس الأعلى، أيد المجلس هذا الاتجاه في قراره عدد 92 الصادر عن الغرفة الإدارية بتاريخ 26 / 01 / 2005(12).وهذا الموقف ينسجم وما ذهب إليه المجلس الأعلى في قرار آخر صادر عن الغرفة الإدارية بتاريخ 25 / 11 / 1983 تحت رقم 263، حين ذهب إلى ما يلي:” حيث إن كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، فإن الدستور لا يمنع استعمال لغة أجنبية إذا دعت الضرورة لذلك”(13).

خاتمة

      ما من شك في أن الثقافة الأدبية والقانونية بالمغرب تمتلك قدرة فريدة على التواصل والاحتضان، وهذه أبرز سماتها لاسيما في وقت يشكل فيه المغرب جسر عبور لحضارات مختلفة وثقافات يصل تباينها إلى درجة الصدام، وهو صدام كان بإمكانه أن يجعل من ثقافتنا طحينه، ويصير وعينا الجمعي مع هذا الطحين أشلاء لا شية فيها ولا لون ولا رائحة، لو لم يظل عنصر الاحتفاظ بهويتنا حاضرا في كل المواعيد، وإذا كانت اللغة العربية تحتل مركزا صميميا في هذه الهوية, وتستمد رمزيتها من ضميرنا الجمعي، ورسميتها من دساتيرنا ونظمنا الإدارية، فكيف وفق العمل القضائي ببلادنا إلى تكريس هذه المركزية؟

بقلم: عبدالجبار بهم

الهوامش

1 - سورة الشعراء. الآية 193.
2 - للمحدثين في هذا الحديث مقال يستحسن تجنب الخوض فيه لاختلاف المقام، ولكن ما حملنا على الاستئناس به هو كونه معضدا بحديث رواه أبو هريرة عن الني صلعم أنه قال:” سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول:” ‏بعثت ‏ ‏بجوامع الكلم ‏ ‏ونصرت بالرعب وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي”. صحيح البخاري . كتاب التعبير. الحديث رقم 6861. ج14.. ص433.
3- الجريدة الرسمية عدد 2727 الصادرة بتاريخ 22 رمضان 1384 موافق 03 فبراير 1965. ص 208.
4- فعلى مستوى الموارد البشرية نجد الفصل4 من الظهير ينص على ما يلي:” لا يمارس وظيفة قاضي بمحاكم المملكة المغربية من لم يحمل الجنسية المغربية”. وعلى مستوى المرجعيات المعتمدة في الحكم وفض المنازعات نجد الفصل الثالث من الظهير ينص على ما يلي:” إن النصوص الشرعية والعبرية وكذلك القوانين المدنية والجنائية الجاري بها العمل حاليا تصبح إلى أن تتم مراجعتها مطبقة لدى المحاكم المذكورة في الفصل الثاني”.
5- ظهير شريف رقم 1.01.127 صادر في 29 ربيع الأول 1422موافق 22 يونيو2001 بتنفيذ القانون رقم :
50.00 المتعلق بالتراجمة المقبولين لدى المحاكم. منشور بالجريدة الرسمية عدد 4918 في 19/07/2001 . ومرسوم رقم 2.0102826 صادر في 6 جمادى الأولى 1423 (17يوليو 2002) ) بتطبيق أحكام القانون رقم 50.00 المتعلق بالتراجمة المقبولين لدى المحاكم. منشور بالجريدة الرسمية عدد 1423 في 15/08/2002
6- ينص القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية في المادة 1 على ما يلي: ” تشمل حماية الملكية الصناعية حسب مدلول هذا القانون براءات الاختراع و تصاميم تشكل (طبوغرافية) الدوائر المندمجة والرسوم والنماذج الصناعية وعلامات الصنع أو التجارة أو الخدمة والاسم التجاري وبيانات المصدر وتسميات المنشأ وزجر المنافسة غير المشروعة”، وتنص الفقرة الرابعة من القانون رقم 13.99 القاضي بإنشاء المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية في المادة 4. على ما يلي: “يؤذن للمكتب بوجه خاص تسليم الشهادات المتعلقة بتقييدات أسماء التجار والتسميات التجارية والشعارات وكذا الشهادات والنسخ المتعلقة بالتقييدات الأخرى المسجلة فيها والمنصوص عليها في القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة التجارة.”.
7-أمر غير منشور.
8- نشر القرار بمجلة المناهج القانونية. عدد مزدوج 11/12- 2008 مطبعة النجاح الجديدة بالبيضاء. ص 247 وما بعدها.
9- قرار منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 67 نونبر – دجنبر 1993
10- القرار عدد 196/2007. صادر بتاريخ27-2-07 في الملف عدد 1314-5-06 أنظر الموقع الإلكتروني لمحكمة الاستئناف التجارية بمراكش:http://www.cacmarrakech.ma/Jurisprdivers.asp.
11- تصريح الوزير الأول ووزير تحديث القطاعات العامة خلال جلسة برلمانية يوم الأربعاء 27 / 12 / 2006 إجابة عن سؤال يتعلق بتدهور استعمال اللغة العربية بالإدارات العمومية ومختلف مناحي الحياة ببلادنا.
12 – انظر تعليق ذ. عبد الرحمن عمرو على هذا القرار في الموقع الإلكتروني التالي:
http://alhewar.org/search/Dsearch.asp?d=1&nr=1271
13 – منشور في مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 35 – 36.

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية