مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

لغة التدريس بين العربية والدارجة

لغة التدريس بين العربية والدارجة
بقلم: عبدالجبار بهم
مراكش 19\ 07\ 2014
           يثور في الآونة الأخيرة نقاش ذو أبعاد بيداغوجية يتوخى الإسهام في حل جانب من المشكلات الصعبة المتصلة بمجال التربية والتعليم ببلادنا، ويتعلق الأمر بالدعوة إلى جعل الدارجة المغربية أداة للتربية والتدريس، وهي دعوة تبلور عنها نقاش هام أنتج تشعبا في الرؤى ودود فعل متباينة؛ إذ في الوقت الذي يجتهد فيه بعض الدارسين للارتقاء بنقاش من هذا القبيل إلى مستوى أكاديمي يعمق المعالجة التحليلية والنقدية البناءة، نجد البعض الآخر يستهجنه إلى درجة الابتذال، ويعتبره من موضوعات الرصيف التي لا تستحق النظر العقلي والسجال الفكري، خاصة وأنه يرتبط بالدارجة التي لا تعدو – في نظرهم- أن تكون لسان السوقة والغوغاء، وبين هذا الرأي وذاك ينحاز فريق ثالث إلى القول بأن نقاش هذه المسألة في حد ذاته مرفوض ومنبوذ لمسه اللغة العربية التي تعنبر من ثوابت الأمة المغربية ورمزا لوحدتها وتماسكها.
         في خضم متابعتي لهذا النقاش الذي اتسم بالحوارية والتفاعلية عبر مجموعة من الوسائط السمعية البصرية والمقروءة، تناهت إلى مخيلتي صور تلك المعارك الضارية التي خاضها أدباء منتصف السبعينات إلى نهاية الثمانينات من القرن الماضي حول لغة السرد في الكتابة الروائية بين الفصحى والعامية، وكانت المعركة محتدمة بين ثلاثة تيارات أدبية؛
         تيار يدعو إلى التمسك باللغة العربية الفصحى أداة للتعبير في الفن الأدب وأداة للتوعية والتثقيف والرفع من الذوق الأدبي وسائر أشكال التواصل إداريا وثقافيا واجتماعيا، وتمثل هذا التيار في مجموع الكتابات الأدبية التي أنتجتها مرحلة ما سمي بعصر النهضة العربية سواء على صعيد الكتابة الروائية / القصصية أو على صعيد الرسائل والمذكرات الشخصية التي عرفت فيما بعد طريقها للذيوع والنشر.    
         وتيار آخر يدعو إلى إعمال  اللهجة العامية في الخطاب الأدبي كوسيلة للتواصل والتغلغل ثقافيا في أوساط المجتمع لاسيما الأوساط المهمشة، ليس فحسب من أجل تعبئتها وتجييشها لمناهضة الفقر والحرمان والظلم ولكن أيضا من أجل  الرفع من مستوى ذوقها الأدبي وتحفيزها على التفكير والتحليل والنقد، وذلك على أساس أن المهم في اللغة هو حمولتها وأثرها على سلوك الفرد والمجتمع، وقد انطلق هذا التيار من اعتبار أن بساطة اللسان الدارجي وكونه نابعا من أوساط شعبية – وغير متعلمة حيانا – لا يمكنه أن يحول دون قدرة هذا اللسان على حمل معاني فكرية وصور بلاغية تؤدي نفس الأدوار الوظيفية التي تؤديها اللغة الرسمية، خاصة وأن الفكر قادر على تحصين نفسه ولو صيغ عبر مفردات تواصلية بسيطة كاللهجة الدارجة الجارية على لسان عامة الناس، بسطاؤهم ونخبهم صغارهم وكبارهم، ولعل كتابات كثيرة صيغة عناوينها بالدارجة تترجم فلسفة هذا التيار وتؤكده.
         وتيار ثالث يفرق بين لغة السرد التي يجب أن تكون فصيحة خدمة لدرامية النص، ولغة الحوار التي يستحسن أن تكون عامية وبالدارجة لارتباطها بنفسية الشخوص وعقليتهم ومستوياتهم المختلفة تعلما وثقافة وبيئة، وهو ما يعني أن اهتمامات هذا التيار انصبت على الجانب الوظيفي للغة ومدى إسهامها في خلق جو من التواصل المجتمعي.
     لكن ما يلفت الانتباه في مسألة تبني الدارجة لغة للتدريس أن هذه المسألة أخذت تطفو على السطح من جديد، وفي ظرفية هيمنت فيها أشكال التواصل باللهجة الدارجة عبر العديد من الوسائط؛ حيث لوحظ مؤخرا الإمعان في كتابة الدارجة كأداة للتواصل عبر الفايسبوك بين أفراد المجتمع على اختلاف طبقاتهم وتباين مستوياتهم التعليمية، كما لوحظ إمعان عامة الناس وخاصتهم في كتابة الدارجة كأداة للتواصل عبر الهاتف المحمول ولو استدعى الأمر كتابتها بالحروف اللاتينية، وإعمالها في التعبير عن بعض الآراء والمواقف على أوجه الجدران والأماكن العامة، وإعمالها في بعض الوصلات الاشهارية وفي لوحات الإشهار في الشوارع والمواقع العامة والأسواق التجارية الكبرى، وتوظيفها من قبل شركات الهاتف المحمول في خطاباتها الموجهة إلى زبنائها المغاربة بالداخل والخارج، ولذلك وفي هذا الواقع الذي تنتشر فيه الدارجة أفقيا وعموديا بين أفراد المجتمع يمكننا أن نتساءل، هل يمكن حل معضلة التربية والتعليم باعتماد الدارجة لغة للتدريس؟ وهل هناك فرق بين الدارجة المغربية واللغة العربية؟.    
   أولا- فعلى مستوى المشكلة التربوية التعليمية ببلادنا يمكن القول بأن هذه المشكلة هي معضلة بنيوية في نظامنا التعليمي تداخل في إفرازها الهيكلي والمنهجي والبشري، ولعل ما سيزيد من تفاقمها هو مثل هذه الحلول التجزيئية العقيمة التي تعالج جانبا من المعضلة بالدعوة إلى اعتماد لغة التدريس على الدارجة، في حين تهمل جوانب أخرى قد يكون الالتفات إليها أفيد وأنجع، ولعل خير مثال على ذلك هو التجربة السابقة التي تبنتها وزارة التربية والتعليم ببلادنا حين تم اختيار أطروحة تعريب دروس الرياضيات والعلوم التجريبية بأقسام الثانوي عوض الاستمرار في تدريسها باللغة الفرنسية التي تم الاحتفاظ بها للتدريس في الجامعات فقط، وهي سياسة أدت إلى تدمير مستقبل آلاف التلاميذ الذين وقفوا على أبواب الكليات  حاملين شواهد معربة لمتابعة دراساتهم العليا باللغة الفرنسية. ولذلك فنحن إذ نسهم في إثراء نقاش من هذا القبيل إنما نسعى إلى جعله نقاشا وطنيا يتوخي التأمل الطويل مع أخذ الحيطة والحذر حتى لا تظل أجيالنا القادمة فئران اختبار تحقن بجرعات غالبا ما تملى علينا من جهات لا يهمها واقع التعليم بالمغرب ولا أهدافه ومآلاته.
   ثانيا- وعلى مستوى العلاقة بين الدارجة واللغة العربية فالنظر إلى مفردات اللسان الدارجي يثبت وجود علاقة امتداد بين الدارجة واللغة العربية، ويثبت أن ما نعتقده لسانا عاميا دارجيا هو في واقع الأمر والتاريخ لغة فصيحة اكتسبت هويتها من القاموس العربي الأصيل، ولئن طرأت على مادته اللغوية تغيرات من الناحية الاسمية أو الفعلية أو الاشتقاقية أو الصرفية فمرد تلك التغييرات يؤول إلى إكراهات فرضتها البيئة الطبيعية والفيزيولوجية للمتكلم، تغييرات بلورة لهجة دارجة عامية أصلها لغة عربية فصيحة نسجها اللسان الفطري دون تعليم نظامي أو تقويم لتطويع اللسان، وبالتالي فما ننطقه عفويا أو نكتبه عفويا سواء من حروف أو من كلمات، لا يخرج عن صميم اللغة العربية التي تسربت إلى وجداننا وذاكرتنا السمعية بفعل اندماجنا معها وتماهينا مع أساليبها البيانية في القرآن الكريم والسنة النبوية ودواوين الشعر العربي إلى درجة لم يتبق من تأثير اللسان المحلي أو الأعجمي إلا نزرا يسيرا لا تأثير له على عربيتنا، فما نتفوه به من كلمات وألفاظ هو في معظمه إن لم يكن في جله كلاما عربيا فصيحا طوعه السان المغربي زيادة أو نقصانا أو إبدالا، وطوره بالشكل الذي يستجيب لتطور المجتمع ووسائله في التواصل والتعبير، وبذلك صار البناء اللغوي في الدارجة المغربية يجمع الأمازيغية والعربية واللاتينية بشكل متناغم تغلب عليه حركة مخارج الحروف العربية.
     وقد تنبه إلى هذه المسألة العديد من المهتمين والباحثين، وأثارها الأستاذ إبراهيم الكلالي في مجموعته القصصية ” الكلام المباح بين الجد والمزاح “، والمجموعة القصصية في الواقع كانت تؤسس لمشروع ثقافي يهدف إلى تكوين قاموس يتضمن الكلمات الدارجة ذات الأصل العربي الفصيح، وهو مشروع غير مسبوق حسب علمي، إذا ما استثنينا التجربة الاستعمارية التي أقدم عليها المعمر الفرنسي حين جمع الكلمات الدارجة ووضعها مع مرادفاتها الفرنسية في كراسات تشبه المعجم تسهيلا للمعمرين من الجاليات الفرنسية الوافدة على المغرب للاندماج في النسيج الاجتماعي والثقافي، ولم يكن هم المستعمر حينها التأصيل للكلمات العربية بالشكل الأكاديمي، بخلاف الكلام المباح بين الجد والمزاح الذي ركز على الكلام اليومي… الكلام المسترسل على السنة الخاصة والعامة من خلال أمثالهم وأزجالهم، حكمهم وحكاياتهم، تقاليدهم ومحادثاتهم، أفراحهم وأحزانهم، لذاتهم والآمهم… الكلام الذي يبدو أنه عادي وبديهي يجري على الألسنة ببساطة وتلقائية وسلاسة، الكلام الذي يجعل اللفظ العربي الفصيح لفظا ينساب عبر تعابير البسطاء ليرسم لوحات زيتية ساخرة كأنها المزاح أو كأن المزاح يتلبس بها ليحول بينها وبين الحقيقة التي يستلهما أي باحث؛ وهي أننا كمغارية في الحواضر والقرى كما في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب والسهول والوهاد وفي جبال الريف والأطلس وفجاجهما، إننا في جميع هذه الأنحاء حين ننطق إنما ننطق العربية الفصحى التي تشربناها منذ نعومة أظفارنا في البيوت والأحياء والكتاتيب.
     ثالثا- وبالرغم من التسليم بأن كلامنا الدارجي هو في معظمه لغة عربية، فهل يمكن اتخاذ الدارجة لغة للتدريس؟
           لعل الأخذ بالدارجة لغة للتدريس عمل تعتريه مجموعة من الصعوبات، فالنطق الدارجي يختلف من منطقة إلى أخرى بالزيادة والنقصان بالإنشاء والتحوير في الألفاظ ابتداء أو انتهاء، بالإضافة إلى أن الكلام الدارجي يتغير باستمرار بسبب التطور الذي يقع في المحيط وبسبب الاحتكاك مما يجعل ما يستجد من الألفاظ وما يضمحل ويتضاءل إلى حد الفناء، عملا يجعل الدارجة رخوة وغير مطاوعة للانضباط في القواعد النحوية, خاصة وأن السر في كونها دارجة ومسترسلة على ألسنة العموم، هو عدم خضوعها للضوابط الصرفية والنحوية وإن كانت غنية بالدلالات البلاغية، ولذلك فصعوبة البحث في معياريتها تكمن في قابليتها لاحتواء كل ما جد من كلمات يتلفظ بها الناس بتلقائية حسب طريقتهم في توظيف مخارج الحروف وطريقتهم في التواصل بالكيفيات الاختزالية التي دأبوا عليها.

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية