مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الإشهار القضائي عدالة تبادلية أم عدالة توزيعية


الإشهار القضائي
عدالة تبادلية أم عدالة توزيعية
 بقلم: عبد الجبار بهم


                                     

التعريف بالإشهار القضائي
    الإشهار القضائي آلية من آليات الإعلام المعتمدة أمام المحاكم لنشر العقود والمقررات اللازم نشرها بمقتضى القانون، وإذا كان الإشهار في سياق العملية التجارية يشكل حلقة تمويلية لاستدرار المزيد من الربح عن طريق التعريف بمزايا المنتجات المروجة وحشد أكبر عدد من مستهلكيها، فان الإشهار القضائي يشكل حلقة إجرائية مقررة بمقتضى نص تشريعي أو تنظيمي لتلافي الخصومات وقطع دابرها من خلال استنفاذ الآجال القانونية، هذا التميز، يكرس في وجداننا الشعور بالقيم الأخلاقية والفلسفية التي تنطوي عليها العملية الإشهارية في مجال العدل والإنصاف، الشيء الذي يحملنا على التساؤل التالي: هل الإشهار القضائي وسيلة إعلامية / تنويرية غايتها حماية حقوق الناس ومصالحهم، أم أنه وسيلة إجرائية لتنفيذ القانون بصرف النظر عن تحقيق هذه الغاية؟، وبمعنى آخر، ترى أين يقع الإشهار القضائي بين ممارسة نظامية بأبعاد ميكانيكية، وبين قيم خدماتية بأبعاد إنسانية؟، بين عدالة بمفهومها التوزيعي وعدالة مقابلة بمفهومها التبادلي؟.
أهداف الإشهار القضائي
    يسعى الإشهار القضائي إلى تحقيق غايات أكثر سموا وعمقا من الإشهار التجاري؛ فهو عملية ترويجية لكن لا يحكمها منطق السوق ومعايير الربح والخسارة، وإنما تحكمها قيم قانونية بهواجس نبيلة؛ منها التعريف بالعقود والمقررات القضائية في صيغها النموذجية التي تبين الأشكال التطبيقية لهندسة النص لقانوني كما يراها القضاء أو على الأقل كما يجيزها ويؤشر عليها في صيغة عقود رضائية يتوافق الأطراف على تداولها بين يديه. ومنها اطلاع العموم على فحوى المقررات القضائية وطبيعة التعاقدات المنجزة تحت نظره ومصالحه الإدارية لتعزيز الثقافة القانونية والوقوف على تجليات تطبيقها أمام أجهزة العدالة، وكما يقال فالقانون يولد ميتا والممارسة تحييه. ومنها تبليغ هذه المقررات والعقود إلى أطرافها وإلى الأغيار من أجل واحتساب سريان آجال الطعون والتعرضات. ومنها ضمان استقرار المعاملات بين كافة الأشخاص؛ طبيعيين كانوا أو معنويين خاصين أو عامين، ونفاذ تلك الأحكام والعقود لفائدتهم أو في مواجهتهم باعتماد الإشهار القضائي وسيلة لتحقيق فرضية العلم والتلقي طبقا لمبدأ عدم العذر بجهل القانون. ومنها السعي إلى حماية حقوق الأغيار واكتساب الحصانة القانونية في تثبيت المراكز الحقوقية للمستفيدين من العملية الإشهارية.
وسائل الإشهار القضائي
     منذ فجر التاريخ اعتمد الإنسان كأهم وسيلة إشهارية لتناقل الأخبار والروايات والقوانين والقرارات والأحكام إلى درجة صارت معها علنية الجلسات وشفوية المرافعات مبدأ أساسيا من مبادئ التنظيم القضائي في الدول الديمقراطية، ويشكل انتقال العملية الإشهارية من خبر الآحاد إلى خبر الجماعة أو ما يصطلح عليه الخبر المتواتر عند علماء الحديث، من أهم المرتكزات التي تأسس عليها ما تنعته المناقشات الفقهية بالسماع الفاشي، الذي غالبا ما ينطلق منن واقعة مغمورة أو من شخص واحد يدعى المنادي أو المؤذن أو الدلال.[1]
    ومع التطور برزت أشكال أخرى للإشهار القضائي كتعليق المقررات والقوانين في الطرقات والأماكن العامة؛ مثل نصب الألواح الاثني عشرة الرومانية في مواقع متفرقة من العاصمة روما لتمكين الجمهور من الاطلاع عيها، وتشكل الألواح الاثني عشرة أول قانون مدون على اعتبار أن التدوين في ذاته عملية توثيقية/اشهارية، وبذلك صار التعليق وإعلان القوانين والأحكام القضائية والعقود في الجرائد وخاصة الجرائد الرسمية أهم وسيلة اشهارية في الأنظمة القضائية المعاصرة، لاسيما الأحكام والقرارات والوثائق التي تفرض القوانين والنصوص التنظيمية الجاري بها العمل نشرها في الجريدة الرسمية، بحيث صار هذا النشر هدفا محوريا ضمن الأهداف التي من أجلها تأسست الجرائد الرسمية في جميع الدول الحديثة.
الإشهار القضائي في السياسة التشريعية
     تصدت مجموعة من النصوص القانونية لبيان الوسائل التي يمكن اعتمادها في الإشهار القضائي، ولتأصيل هذه الوسائل كما أفرزتها السياسة التشريعية ببلادنا، يمكن الوقوف على مجموعة من النصوص القانونية كالتالي:
1- الجريدة الرسمية: تشهر في الجريدة الرسمية إعلانات بيع العقار والمقررات القضائية المبلغة إلى القيم(الفصلان 209-441) من ق.م.م، وتشهر فيها حسب القانون رقم 17.95 عقود شركات المساهمة ومداولات أجهزتها المسيرة والمقررات القضائية المتصلة بها(المواد 13- 33- 37- 357- 446)، ووفق القانون رقم 15.95 بشأن مدونة التجارة تشهر في الجريدة الرسمية أيضا العقود المنشئة والمعدلة للشركات، والعقود المنصبة على الأصول التجارية وإجراءات صعوبات المقاولة(المواد 47- 83-115- 153-667-569- 687- 698-700-710 – 718- 729)، وبالجريدة الرسمية تنشر أيضا الأنظمة الأساسية لشركات المحاصة ومقرراتها (المواد 93 إلى 98) من القانون رقم 5.96، كما تنشر بها المقررات القضائية الخاصة بالمسطرة الغيابية في القانون الجنائي(المادة 450).
 2- الجرائد الوطنية: يشهر في الجرائد الوطنية المخول لها نشر الإعلانات القانونية والقضائية المقررات المبلغة إلى القيم، وإجراءات توريث الدولة لأموال الهالك الذي لا وارث له، والحجوز والبيوع القضائية للعقار والمنقول(الفصول441- 268-474- 209-210- 469- 476-479- 486- 507) من ق.م.م ، وتشهر فيها كذلك حقوق الاسم والعنوان والعلامة التجارية، والعقود المنصبة على الأصول التجارية، وإجراءات صعوبات المقاولة حسب المواد70- 83- 115- 144- 153- 569- 587- 667- 698 من القانون رقم 15.95، كما تشهر بها الأنظمة الأساسية لشركات المساهمة ومداولاتها والمقررات القضائية الصادرة بشأنها(المواد 13-16-30-33-37-357-442-446) من القانون رقم 17.95، وحسب القانون رقم 5.96 ينشر في الجرائد الوطنية كل القرارات والأنظمة الأساسية للشركات ذات المسؤولية المحدودة وشركات التوصية وشركات المحاصة (المواد 86– 35-93- 94).
3- سبورة الإعلانات القضائية بالمحاكم: يشهر في سبورة الإعلانات القضائية بالمحاكم حسب ق.م.م حجز الأصول التجارية والعقارات محفظة وغير محفظة أو في طور التحفيظ، وبيوع العقار والمنقول والتبليغات القضائية للقيم(الفصول209-210-441-455-463-469-470- 471-474-476-479-486-507)، وحسب القانون رقم 15.95 بشأن مدونة التجارة يشهر في هذه السبورة بيع الأصول التجارية وإجراءات صعوبات المقاولة(المادة 115-144- 569-587-710)، كما تشهر بها  الإعلانات المتعلقة بقانون حرية الأسعار والمنافسة حسب ظهير (5 يونيو 2001/ المادة 79 منه)، وحسب القانون رقم 17.96 يمكن للمحكمة أن تأمر بنشر مقرراتها في سبورة الإعلانات القضائية بالمحاكم(المادة 442 )، كما تعلق بهذه السبورة وبباب المحكمة مقررات المسطرة الغيابية في القضاء الجنائي(المواد 48- 443- 444).
 4- سبورة الإعلانات بالمرافق العمومية: يشهر في سبورة الإعلانات بمكاتب السلطة الإدارية المحلية والمرافق العمومية بيع العقارات، وتوريث الدولة لأموال الهالك الذي لا وارث له، وإجراءات التبليغ للقيم، والحجز على العقارات وإجراءات بيعها(الفصول 209-210-268-441- 469 -471- 474-476-479-486) من ق. م.م ، وحسب المادتين 443 و 444 من القانون الجنائي ترسل نسخة من الأمر القاضي بإجراء المسطرة الغيابية إلى مدير الأملاك المخزنية للنشر بالدائرة التي يتواجد فيها آخر مسكن للمتهم، أو إلى مدير الأملاك المخزنية بدائرة المحكمة، وبمكاتب الجماعة التي تقع فيها المنطقة المقرر نزع ملكيتها ينشر المقرر القاضي بإعلان المنفعة العامة (الفصل 8) من قانون نزع الملكية.
5- الأسواق العمومية: تشهر إجراءات بيع العقارات والمنقولات بالمزاد في أقرب سوق عمومي، وفي الأسواق المجاورة لمكان العقار وفي أي مكان آخر يتوقع فيه الحصول على أحسن نتيجة (الفصول 209-210-463-469-471-474-476-479-486) من ق.م.م.  
6- آخر مقر للمعني بالأمر: يشهر في آخر مقر للهالك الذي لا وارث له إجراءات توريث للدولة لأمواله، وعلى باب مسكن المحجوز عليه(الفصول268-471- 474) من ق.م.م، وفي المادة الجنائية تعلن المسطرة الغيابية بباب آخر مسكن للمتهم(المادتان 443 - 444 ). 
7- موقع العقار: يشهر بيع الأصل التجاري بالمدخل الرئيسي للعقار موقع تواجده، وفي أي مكان يكون مناسبا للإعلان( المادة115) من القانون رقم 15.95 بشأن مدونة التجارة، كما ينشر هذا الإعلان على كل واحد من العقارات المحجوزة والمراد بيعها(الفصلان471-474).
8-الوسائل السمعية البصرية: يشهر في الوسائل السمعية البصرية بيع العقار المرهون(الفصل471) من ق.م.م، وتذاع المسطرة الغيابية ثلاث مرات داخل أجل ثمانية أيام في الإذاعة الوطنية(المادة 445) من ق.ج ، وفي الوسائل السمعية البصرية يعتبر البث عملية إشهارية للمصنفات الإبداعية حسب المادة 44 وما يليها من قانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.
9-السجل العقاري: تشهر ملكية العقارات في مصلحة السجل العقاري، وبه أيضا يشهر الحجز عليها وبيعها (الفصول455-463-470)من ق.م.م، وبالمحافظة على الأملاك العقارية تشهر العقود المنصبة على العقارات المحفظة والتي في طور التحفيظ وإعلانات الإعسار والإفلاس(الفصول 489- 594-4-618/9-618/10-618 /20-618/ 624/629/987 /1051) من ق.ل.ع.
10- السجل التجاري المحلي والمركزي: يشهر في السجلين التجاريين المحلي والمركزي حجز وبيع الأصول التجارية(الفصل 455) من ق.م.م، وفيهما يشهر التعريف بالتجار والشركات، وحقوق الاسم والعنوان والعلامة التجارية، والعقود المنصبة على الأصول التجارية(المواد 47-70-83-115) من القانون رقم 15.95، وحسب ق.ل.ع تشهر بالسجلين المذكورين عقود إنشاء الشركة وانقضائها والإفلاسات والتصفيات القضائية وأحكام الكفالة(الفصول987-1051-1059-1060-1056-1070-1135-1168-1197)، وحسب المواد 14و15 و16 و357 من قانون شركات المساهمة يتم إشهار عقودها ووثائقها لدى كتابة ضبط المحكمة المختصة بالسجل التجاري، أو بمحكمة المقر الاجتماعي للشركة كما نصت على ذلك المادة 86 والمادة 35 من القانون رقم 5.96.
11- سجلات كتابة الضبط لدى المحاكم الابتدائية: تشهر في سجلات كتابة الضبط بالمحاكم الابتدائية حجوز وبيوع العقارات غير المحفظة(الفصول455-463-470) من ق.م.م. وبكتابة ضبط محكمة المقر الاجتماعي يتم شهر عقود الشركة حسب المادة 93 وما يليها من قانون شركات المحاصة.
12- المكتب المغربي للملكية الصناعية: تشهر بسجلات المكتب المغربي للملكية الصناعية عقود سندات الملكية الصناعية ومعلوماتها التقنية حسب المادة 3 القانون رقم 13.99، كما تشهر بسجلات هذا المكتب براءة الاختراع وفق المادة50 من القانون رقم 17.97 المتعلق بحماية الملكية الصناعية، وبها تشهر العقود والأحكام القضائية النهائية والقرارات الإدارية والقرارات الفردية بالتخلي عن البراءة أو سقوط الحق فيها وفهارسها الرسمية والرسوم والنماذج والحجوز(المواد من 58 إلى المادة 209) من نفس القانون.
الإشهار القضائي في السياسة التنظيمية
     على مستوى التدابير التنظيمية للإشهار القضائي تطالعنا مجموعة من المذكرات والمناشير الصادرة عن وزارة العدل في شأن تفعيل الدور الإعلامي للإشهار القضائي؛ من ذلك المنشور رقم 270 الموجه من وزير العدل بتاريخ 28/12/1965 إلى المسئولين القضائيين والإداريين بمحاكم المملكة، والذي سطر فيه مجموعة من التدابير الإشهارية للزيادة في حجم المداخيل الناتجة عن البيع القضائي؛ كتكثيف العملية الاشهارية عبر جميع الوسائل المذكورة أعلاه وحتى آخر ليلة عن موعد المزاد العلني، والإمعان في تعليق الإعلانات بشوارع المدينة والأزقة ومفترقات الطرق والأماكن العمومية ليتأتى الاطلاع عليها بسهولة. ومن ذلك أيضا المنشور عدد 93 لوزير العدل الموجه بتاريخ 28/04/1982 إلى المسئولين القضائيين بمحاكم المملكة حول النشرة القضائية بمحاكم الاستئناف لإشهار الإعلانات والأحكام القضائية التي تستحق النشر. ومن ذلك أيضا الرسالة الدورية رقم 973 الموجهة من وزير العدل بتاريخ 28/02/1985 إلى المسئولين الإداريين بمحاكم المملكة حول تصفية مصاريف نشر الإعلانات الإدارية والقضائية بالجريدة الرسمية.
معوقات الإشهار القضائي
    تعترض الإشهار القضائي مجموعة من المعوقات التي تحول بينه وبين الوصل إلى عموم المستهدفين من العملية الإشهارية، وقد بلغت هذه المعوقات درجة أصبح يخيل معها لمتتبعي الشأن القضائي ببلادنا أن الإشهار القضائي مجرد إجراء شكلي وروتيني لا يكرس فلسفة الإعلام والتبليغ التي توخها المشرع من سنه ضمن ترسانة المساطر القضائية طالما استمرت مجموعة من العوامل البنيوية والهيكلية قائمة، تجعل وسائل الإشهار القضائي بقنواته المذكورة أعلاه آلية لفرض الأمر الواقع، وترسيخ مفهوم العدالة التوزيعية على حساب قيم المساواة التي تنشدها العدالة التبادلية.
      فقد تمكنت الارستقراطية الاستعمارية إبان الفترة الكولونيالية من الاستحواذ على إقطاعيات كبرى من أراضي المغرب النافع، وذلك بتوظيف الجريدة الرسمية كأداة قانونية لفرض الأمر الواقع في أوساط تحتل فيها الأمية آنذاك نسبة 98%، كانت الجريدة الرسمية حينئذ أداة تواصل تحتكرها النخبة الاستعمارية التي لم تكن قطعا تمثل جميع المغاربة المخاطبين بنشراتها، وعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على الاستقلال فإن نشرات هذه الجريدة- مع الأسف- ما تزال حتى الآن تصطدم بنفس المعوقات الناجمة عن تفشي الأمية الأبجدية التي تتجاوز نسبتها30% من مجموع السكان، بالإضافة إلى الأمية الثقافية التي يكرسها ضعف الإقبال على القراءة[2]، حتى إن الكثير من الإداريين بالقطاعين العام والخاص، لا يعيرون الجريدة الرسمية أي اهتمام بالرغم من اطراد توصلهم بها، هذا فضلا عن غير المشتركين فيها، وهو ما يكرس محدودية الفئة المستفيدة فعلا من الخدمات الإعلامية لهذه الجريدة، وبالتالي إهدار الكثير من الحقوق، من أمثلة ذلك؛ الطلبات المعروضة على المحاكم التجارية، والتي ترمي إلى رفع سقوط الأجل في مساطر صعوبات المقاولة لعدم تمكن العارضين من الاطلاع على الإعلانات القضائية بشأنها، يصعب قانونا الالتفات إلي هذه الطلبات لهشاشة أسبابها، وللمبدأ القاضي بعدم العذر بجهل القانون، العامل الذي ينتج عنه ضياع حقوق ومصالح كان من الممكن الحفاظ عليها.
     فالمتقاضون وعموم الجمهور يشكلون عنصرا جوهريا في عملية الإشهار القضائي، ومن سوء حظ هؤلاء وأولئك أن الإعلانات تلقى إليهم عبر وسائط اتصالية لا صلة لهم بها، أو لهم بها بصيص من صلة مهزوزة آخذة في الاندثار، فلا أحد من عامة الناس يداوم مطالعة الجريدة الرسمية أو الجريدة اليومية[3]، مما يفقد الإعلانات المنشورة بها مقاصدها في تحصيل العلم وحماية الحقوق، وبالتالي يصبح النشر في هذه الوسائط ضربا من الالتزام الحرفي في تطبيق النصوص الآمرة، من غير الالتفات لفلسفتها وأهدافها، بل إن هذه الممارسة تهدر غاية المشرع ومقصده، وتشكل في نفس الآن أسلوبا بذيئا ولا مسئولا، ظاهره تطبيق القانون وباطنه التحلل من المسؤولية وليأت بعد ذلك الطوفان، إنها طريقة في التطبيق الآلي للقانون أشبه ما تكون بطريقة الشرح على المتون التي تجاوزتها المناهج وعفا عليها الزمن.
     أضف إلى ذلك أن موضع الإعلانات القضائية في الجرائد، يحتل مركزا هامشيا مغمورا تحت عدد من الصفحات لا يقل غالبا عن أربعة إلى خمس صفحات في أعمدة متزاحمة بشكل تراكمي وبخط صغير لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، بل لا يمكن حتى الاكتراث به ضمن صفحة جامدة وخالية من أي إثارة بصرية، الشيء الذي ينعكس سلبا على تجاوب الجمهور وتفاعله مع الإعلانات القضائية بالجرائد، هذا إذا لم يتم النشر في جرائد ليس لها قراء ولا تحظى بالرواج أصلا كما هو الشأن بالنسبة لجرائد الرصيف.             
    فالنشر بهذه الكيفية ينم عن عدم استحضار الشرط الأساسي الذي تنهض عليه العملية التواصلية والمتمثل في اعتبار المستوى الثقافي والاجتماعي للفئة المستهدفة من الإعلانات القضائية، والنسب الاحتمالية في تحقيق هذه الإعلانات لأهدافها، والإجراء الحالي لا يسعى إلى إمكانية تحقيق العلم اليقيني بموضوع الإشهار، وإنما يسعى فقط إلى خلق قناعة افتراضية بحصول هذا العلم.
     أما الإشهار بالمحاكم والمرافق الإدارية، والذي يتم على سبورة خاصة بالإعلانات تنصب غالبا ببهو المحكمة أو المرفق العمومي، فهو محدود الفعالية بالنظر إلى تهرؤ وسائل الإشهار وطمرها في ردهات يصعب على العامة الانتباه إليها، زيادة على أن جملة من مرتفقي المصالح الإدارية والقضائية يحركهم هم ( بفتح الهاء وتشديد الميم ) المصلحة إلى الاندفاع لقضائها بالسرعة الممكنة؛ إما الحصول على وثيقة أو حضور إحدى الجلسات أو الاستفسار عن إجراء من الإجراءات من غير التفات إلى شيء آخر، والملاحظ أن نفسية المواطن المغربي تنفر من المحاكم والإدارات العمومية، وتعتبرها شرا لابد منه وكابوسا يتوجب الإسراع في الخلاص منه كلما فرضته الضرورة، انه مركب نفسي تقليدي راكمته أزمنة القهر المخزني الذي مورس مدة طويلة على المواطنين، حتى أصبحوا ينظرون إلى المصالح الإدارية والمحاكم ومراكز الشرطة على أنها أجهزة قمعية لا علاقة لها بالمواطن والمواطنة، هذا بالإضافة إلى ما اتسمت به الإدارة المغربية من ممارسات لا أخلاقية وفساد إداري، جعل عامة الناس يفضلون تلافي التواصل معها، ناهيك عن زيارتها لغير سبب قاهر أو التفرج على أروقتها والاطلاع على جديد أخبارها وإعلاناتها؛ فالمرافق الإدارية والقضائية بالنسبة إلى العموم متاهة غائرة وإعلاناتها شؤم مبين.
   وإذا كان هذا حال الإشهار القضائي في وسائل الإعلام المقروءة، فان حاله في الوسائل السمعية البصرية ليس بأحسن من ذلك؛ فقد أضحى الإشهار القضائي ضعيف المردودية والفعالية في هذه الوسائل بسبب تراكم مظاهر الرتابة والروتين اللتين تلفان هذا القطاع، أمام عجز فاضح عن مسايرة المد التنافسي والتحديات التي فرضها الانفتاح على الفضائيات وشبكة الانترنيت، بما تحملانه من تنوع برامجي مثير، وتكلفة متواضعة في متناول الجميع، وهو ما أسفر عن عزوف الجمهور المغربي عن استهلاك المنتج الإعلامي السمعي/البصري المحلي، عزوف عمقته هجرة فئة عريضة من المغاربة للمذياع والتلفاز، العامل الذي انعكس سلبا على جسور التواصل بينهم وبين النشرات التي تنتجها المؤسسات القضائية عبر هذه الوسائل.
    يضاف إلى هذا تراجع مستوى الحملات الإشهارية في الأسواق العمومية بسب انحباس أنشطتها الثقافية والترفيهية والإشهارية، وانقراض بعض المظاهر التراثية التي مثلت عبر تاريخ طويل قنوات رئيسية في العملية الاشهارية كالبراح والدلال والحلايقي، والملاحظ في الآونة الأخيرة انخفاض نسبة مرتادي الأسواق الأسبوعية في المدن وحتى في العديد من القرى بسبب الضغط الاجتماعي والنفسي والمعيشي، ضغط قاهر لم يترك للإنسان المغربي إلا روتينا يوميا في مجال ما فتئ يضيق باستمرار. 
إشهار قضائي بمواصفات المواطنة
    لإشهار قضائي بمواصفات المواطنة الحقيقية التي تستهدف وعي الجمهور المغربي ووجدانه، وتحمي حقوقه ومصالحه، وتقوي إيمانه وثقته بقوانين بلده وأجهزتها الإدارية القضائية، وتنزع عن مشاعره لبوس الارتياب والتوجسس، وتحمله على الإسهام بوعي ومسؤولية في معركة الإصلاح القضائي التي تخوضها عدالتنا، لكل هذه الأهداف والمقاصد، نقترح تصورنا لإشهار قضائي بمواصفات وطعم المواطنة الحقيقية على الشكل التالي: 
1- التركيز على عمليات التبليغ المباشر وبالطرق المعروفة، وتفعيل الاستدعاءات لكل من له صلة من قريب أو بعيد بموضوع الإشهار.
2- إنشاء إذاعات وقنوات فضائية وطنية خاصة بالإشهار القضائي، تناط بها مهمة نشر الإعلانات القضائية من أحكام وعقود، ويجب أن تصاغ الإعلانات إضافة إلى اللغتين العربية والفرنسية باللهجات المحلية الدارجة والامازيغية بأنواعها.
3- تكوين أقسام بالمصالح الإدارية ومصالح كتابة الضبط بالمحاكم، تناط بها مهمة الاتصال والتواصل مع الجمهور وتأسيس سلوك جديد في التعامل مع المرتفقين، يرسخ في أذهانهم المفهوم الجديد للإدارة المواطنة، هذه الأقسام تعمل من جهة أخرى على تلقي الإعلانات القضائية وتسهر على اطلاع الجمهور على فحواها بطرق بديلة، تراعي مستوياتهم الثقافية ومراكزهم الاجتماعية، مع توظيف كافة البرامج الاشهارية الممكنة؛ كتيبات، ملصقات، حلقات شبه حلقات الدلال، انترنيت، وحتى الشاشات الكبرى عوض السبورات التي لم تعد تلعب إلا دورا إعلاميا محدودا، مع توسيع دائرة هذه البرامج والمناهج لتشمل جميع المرافق التي لها صلة بمصالح الجمهور كمصلحة كتابة الضبط بالمحاكم، ومصلحة السجل التجاري، ومصلحة السجل العقاري، والمكتب المغربي للملكية الصناعية ونحو ذلك .
4- ضرورة الاهتمام بالإعلان القضائي كمنتج دعائي لا يقل أهمية عن المنتج التجاري، وذلك بايلائه القيمة التي يستحقها كمنتج يحظى بالهبة والوقار اللذين يتحلى بهما القضاء، سواء من حيث اختيار أماكن النشر أو حيث صيغته وكيفية إدراجه، حتى يثير انتباه الجمهور ويدفعهم إلى تلمس فحواه، والتعرف على مستوى النضج الفكري والثقافي والإبداعي للسادة القضاة والموثقين ومحرري العقود، والاستفادة من ذلك بكيفية شفافة تحقق النجاعة القضائية في التربية والتكوين.
6- إنشاء أقسام وأركان خاصة للإشهار القضائي في الموقع الالكتروني لوزارة العدل، أو إنشاء موقع الكتروني خاص بإشهار الإعلانات القضائية تابع للوزارة العدل.
7- إصدار صحيفة الكترونية في كل محكمة من محاكم المملكة، مهمتها الإشهار القضائي على غرار الموقع الالكتروني لمركز النشر والتوثيق القضائي بالمجلس الأعلى، في أفق توسيع دائرة الإصدارات الرقمية ببلادنا.
9- تفعيل المنشور رقم 270 الصادر بتاريخ 1965/12/28 بالرغم من أقدميته، وذلك بتخصيص يوم معين وقاعات معينة للبيوعات القضائية بمحاكم المملكة، حتى يتعود الجمهور على زيارتها، ويجب أن تظل مفتوحة الأبواب ساعات معينة لاستقبال الزوار، مع اختيار أيام السبت للمزاد العلني لاستكثار الجمهور .






[1] - قال تعالى في سورة يوسف ( الآية رقم 70 ):" فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون "، وقال في سورة الحج ( الآية رقم 3 ):" وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ".

[2]-- تراجع وضع القراءة في المغرب بشكل مهول، كما كشفت عن ذلك دراسة ميدانية أخيرة قام بها مكتب الدراسات الديموغرافية والاقتصادية والقانونية والإحصائية (ايدسا) بإيعاز من وزارة الثقافة، وشملت 1365 قارئا محتملا في 13 مدينة مغربية. ووجدت الدراسة أن القراءة بالمغرب قد تراجعت بنسبة 2% بدليل أن واحداً من عشرة قراء محتملين لم يقرأ أي كتاب خلال العام الماضي فيما لم يقرأ 41% من القراء أي كتاب منذ ستة أشهر أو أكثر، و26.5% لم يتمكنوا من قراءة سوى كتاب واحد خلال سنة بكاملها، و19.3% قرؤوا كتابا خلال سنتين، و3.6% خلال خمس سنوات، و9.6% من المستجوبين لم يقرؤوا إلا كتابا واحدا خلال خمس سنوات. وأن حوالي ثلثي القراء يقرؤون قراءة متوسطة و23% يواظبون على القراءة و11% لا يقرؤون إلا نادرا. وعن الأسباب الرئيسية للعزوف عن القراءة، كما جاء في الدراسة، هو ضعف القدرة الشرائية، والسبب الثاني هو عدم التوفر على الرغبة في القراءة، حيث قال ثلث القارئين العازفين عن القراءة أنهم لم يعودوا يمتلكون الرغبة في القراءة. أنظر مقالة بعنوان تراجع نسبة القراءة في المغرب لسعيدة شريف. منشورة بجريدة الشرق الأوسط العدد 8582 بتاريخ 28 مايو 2002 .
  
[3] - 99 في  المائة لا يقرؤون الصحف حسب جمال بوزنيس- جريدة  الصباح عدد3441 بتاريخ 05/05/2011

عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية