مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

مدخل إلى القانون الإجرائي من خلال المسطرة المدنية


مدخل إلى القانون الإجرائي
 من خلال المسطرة المدنية
عبدالجبار بهم
   أولا: مفهوم القانون الاجرائي
         لا نكاد نجد في التشريع المغربي نصا بعينه يعرف القانون الاجرائي تعريفا جامعا مانعا سواء في نصوص قانون المسطرة المدنية أو في نصوص قانون المسطرة الجنائية أو في غيرهما من النصوص المسطرية الأخرى، والمشرع المغربي في هذا الشأن لا يختلف عن الكثير من التشريعات التي تلافت وضع تعريف مستقل للقانون الإجرائي، ويبدو أن هذا أمر طبيعي لمجموعة من الأسباب؛ أولها يتمثل في أن القانون الإجرائي يتمتع بخاصية كونه قانوناعمليا سلوكيا وذا طبيعة تقنية تتغير وتتطور بكيفية سلسة تماشيا مع وتيرة الحياة ومتطلباتها، مما يتعذر معه على المشرع التدخل في كل وقت وحين لوضع تعريف قار يحد من هذه الدينامية ويضيق عليها، لذلك تأتي المذكرات والدوريات والمناشير لتقوم بمهمة المقاربة والملاءمة بين الأنظمة القانونية في شقها النظري وبين الشكليات الإجرائية العملية المتصلة بها، وإن كانت هذه المذكرات ونحوها لا تغني عن تدخل المشرع - منهجيا - لتناول بعض التعاريف التي يؤسس لها أو التي تستقر عليها ثقافة الناس وديدنهم. وثانيها يرجع إلى وضوح هذا المفهوم ( القانون الاجرائي ) الذي يتضمن معناه في مبناه فهو نظام خاص بالإجراءات أو نظام أسلوب أو تدبير أو طريقة أو عملية أو كيفية أو مسطرة أو منهج أو نهج كما في قاموس المعاني. وثالثها يتمثل في أن المشرع لم ينتصب لوضع التعاريف والمصطلحات العامة وإن كان يعمل أحيانا على تأطيرها ضمن مفاهيم خاصة ترتبط بالقوانين الموضوعية التي يسنها، وطالما أن القانون الإجرائي هو قانون عائم يرخي بظلاله على سائر القوانين نظرا لطبيعته العملية ولحمولته التكتيكية، فإن انصراف المشرع عن الخوض في مفهومه تأكيد منه على أن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة اصطلاح تدخل في محض العمل الفقهي ولا شأن له بها. 

ثانيا: أهمية القانون الإجرائي

         فالتدافع من أجل تلبية الحاجات في عالم الطبيعة وبين أفراد المجتمع وحتى لدى المصالح الإدارية والجهات الرسمية أمر تمليه ضرورة الحياة، إلا أن السعي لتلبية تلك الحاجات يقتضي سلوكا معقلنا يجنب الإنسان إرهاق نفسه ببذل المزيد من الجهد وإهدار الكثير من الوقت وإلحاق الأذى بالآخرين، كما أن اقتضاء الأغراض لدى المصالح الإدارية والجهات الرسمية يفرض على المرء أن يكون على علم بما يريد، وأين يتجه لتحقيق ما يريد، ومتى يمكن أن يطلب ما يريد، وما هي الحدود الزمانية والمكانية والقيمية التي تتيح له الظفر بما يريد؛ فالحصول على وثائق من المرفق الإداري يستلزم أن يكون المرتفق على بينة من الوثيقة المطلوب الحصول عليها وكيفية الحصول عليها والشروط المتطلبة لذلك والجهة المختصة بتسليمها، وإلا ظل تائها بين المصالح الإدارية والجهات الرسمية في اضطراب وافتتان دون طائل..
      كما أنه لا يمكن للمرء أن يندفع إلى تلبية حاجاته وقضاء أغراضه دون أن يؤدي ذلك إلى إمكانية - إن لم نقل إلى ضروروة - الاصطدام بالآخرين الذين يسعون إلى تحقيق نفس الأهداف وتحملهم الرغبة على أن يكونوا السباقين إلى الظفر بها دون غيرهم، مما ينشب عنه الصراع بين أفراد المجتمع ما لم يتواضعوا على نظام سلوكي إجرائي يكون دعامة للتعايش السلمي فيما بينهم وأساسا لضمان حياة آمنة مستقرة.
    وإذا كان السعي إلى الدفع بالإنسان من مستوى الحياة البدائية الهمجية الى مستوى الحياة الراقية المتطورة ومن مستوى الحياة الفردية العفوية إلى مستوى الحياة الجماعية المنظمة يتطلبان نزول الشرائع وسن القواعد القانونية التي تبين الحقوق والواجبات، فإن هذه الشرائع وتلك القوانين تبقى منفصلة عن الانسان مالم توجد قواعد إجرائية تمكنه من كيفية إدراك الحقوق والالتزام بالواجبات، ومن هنا تبدو أهمية القانون الإجرائي في فك شفرات القانون الموضوعي وتسهيل تطبيقه وممارسته على أرض الواقع.       
                                  ثالثا: تطور القانون الإجرائي
         وقد كان من الضروري أن تمر الإنسانية بتجارب إجرائية كثيرة قبل أن تستقر على المنظومة الإجرائية في صيغتها الراهنة والتي تشكل في واقع الأمر خلاصة لتجارب الماضي؛ فقد مر الإنسان بإجراءات الثأر والإنتقام وإجراءات القصاص وإجراءات الالتزام بتنفيذ الحكم الفلسفية والبشارة الرسولية وتعاليم الديانات السماوية حماية للحقوق وأداء للواجبات، ومجموع ما راكمته الأجيال الماضية في تجاربها القانونية سواء تلك القوانين النابعة من مصدر إلهي أو من مصدر وضعي هو ما يشكل زبدة القوانين والقواعد الإجرائية التي تأخذ بها الدولة الحديثة وتطبقها بنسب متفاوتة، سواء من حيث تصورها للحقوق والواجبات أومن حيث فلسفتها التشريعية ووضعيتها بين الأمم المعاصرة، وعليه فقد ارتقت أهمية القانون الإجرائي من مجرد كونه أداة فطرية لحماية الحقوق والدفاع عنها إلى كونه نظاما ملازما للدولة مجسدا لقوتها وهمينتها على ضبط إيقاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية صونا للمصلحة العامة التي تحقق سعادة جميع الأفراد في حدها الأدنى، ومثلت السلطة القضائية عبر مختلف العصور ولدى الأمم القديمة والحديثة رمز هذه الدولة الحامية الساعية لتوزيع العدالة على أفراد المجتمع بكيفية متساوية، وكرست ذلك في جملة قواعد تقرر الحقوق والالتزامات لكن بصورة تحرم على الإنسان اقتضاء حقه بنفسه، بل تفرض عليه اتباع مسطرة خاصة في التقاضي وأمام جهات تتمتع باختصاص مكاني ونوعي وقيمي وضمن آجال قابلة للتقادم ووفق طرق في البحث والتحقيق تتوج بأحكام بأوصاف معينة وقابلة للطعن وفق طرق معينة وهذه كلها قواعد توصف بأنها قواعد إجرائية.
         ولتمييز مكانة القانون الإجرائي وأهميته في الحياة اليومية للإنسان وضمن دائرة سلوكه العملي، ينبغي أن نستحضر أنماط السلوك الإنساني كما تمليها حياته اليومية العادية والتي يمكن اختزالها في نمطين من السلوك؛
1- فهناك السلوك الفطري وهو الذي يمارسه الانسان يوميا منذ أن يغادر فراش نومه إلى أن يعود إليه وهو سلوك عفوي حر، يماشي انفعالاته وحركته البيولوجية ولا ينضبط إلا لثقافته وقناعاته وأخلاقه وما يعتقد أنه الصواب سواء في التعامل مع نفسه ككائن بشري أو في التعامل مع محيطه الطبيعي والانساني، وهذا السلوك الاعتيادي هو ما يمكننا من تقييم نضج الانسان ووعيه، إذ بواسطتهما ينظم حياته الخاصة من حيث توقيت راحته وأكله وشربه ونومه ويوجه أفعاله وأقواله وتصرفاته، وبواسطتهما يتحكم في التزاماته وارتباطاته، وإن كان للحياة العامة التي يحياها ضمن محيطه تأثير عليها بشكل أو بآخر، لكن - ومع ذلك - يستطيع الإنسان أن يصطنع لنفسه عالما منفصلا يشكل في نهاية المطاف سلوكا إجرائيا يوميا هو دأب الانسان وديدنه وهو مسطرته في الحياة لا تدخل ضمن القواعد الإجرائية بمفهومها القانوني وإن كانت من حيث طبيعتها هي قواعد إجرائية تهم أجرأت الحياة الخاصة التي يسعى كل عاقل تنظيمها.
2- وهناك السلوك الوضعي وهو السلوك الذي يتواضع عليه الناس ويألفه المجمتع بصورة تلقائية أو بصورة تشريعية، بحيث يضبط تصرفات الانسان مع محيطه المؤسساتي المتمثل في المصالح الإدارية العامة والخاصة التي تضع نمطا من السلوك الإجرائي يضطر الإنسان كمواطن للانصياع له من أجل الاستفادة من خدماتها، وهذا السلوك الإجرائي توضع له قوانين تنظيمية تبين للمرتفقين ما يجب عليهم القيام به لا قتضاء مصالحهم، كتردد الانسان على المحافظة العقارية لتسجيل عقاراته أو لتسجيل ديونه على عقارات غيره، فيضطر لسلوك إجراءات معينة من أجل تحقيق هذا الغرض، أو اللجوء إلى السجل التجاري بالمحاكم لتسجيل نفسه كتاجر أو لتسجيل رهون أو حجوز على أصل تجاري مملوك لغيره، بحيث لا يقبل منه ذلك إلا إذا اتبع إجراءات معينة من هذه الإجراءات لدى مصالح المحافظ أو لدى مصالح السجل التجاري، وقس على ذلك سائر المرافق المنظمة إجراءاتها بنصوص قانونية تلزم الانسان بسلوكها وإلا رفضت طلباته، وهذا السلوك هو ما يسمى بالإجراءات الإدارية التي تنظمها قواعد القانون الإجرائي.
        ويدخل في هذا السلوك إجراءات التقاضي التي تتمثل في مجموع الإجراءات الواجب على الإنسان سلوكها والالتزام بكيفياتها أمام الجهات القضائية، التي يتوجب عليها أيضا سلوكها إزاء المتقاضين للوصول إلى نتيجة واحدة يشترك فيها القاضي والمتقاضي ويتمثل في ضمان حق الانسان في التمتع بعدالة منصفة ونزيهة يتساوى أمامها الجميع وتضمن حق الجميع في الأمن والعدالة والاستقرار.
        وبالتالي فالإجراءات القضائية هي غير الإجراءات الاعتيادية الفطرية التي تركها المشرع لحياة الإنسان الخاصة احتراما للحرية الشخصية الفردية للإنسان، وهي حرية مقدسة في الإعتقاد والتفكير والرأي والسلوك وبدونها لا يكون الإنسان إنسانا، أما الإجراءات الإدارية والقضائية فهي إرتقاء بالإنسان من الحرية الفردية العفوية التي قد تصير هاجسا نرجسيا إلى الحرية الجماعية المنظمة بقواعد للسلوك تشكل ميثاقا للاحتماع من أجل العيش الجماعي الكريم. 
       


عن الكاتب

عبدالجبار بهم افضل نشر كل ما اكتب من اجل تداول المعرفة ومناقشتها

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

مدونة عبدالجبار بهم من أجل ثقافة قانونية