الضوابط السيكولوجية والضوابط القانونية
تقديم:
تخيل نفسك تسير إلى بيتك ليلا.. وما أن ولجت زقاقا شديد الظلمة، حتى بدأ يتناهى إلى مسامعك وقع خطى تتعقبك.. بدا الصوت على مسافة بعيدة لكنها آخذة في التقلص، حاولت أن تخف في المسير.. هرولت قليلا دون أن تثير الانتباه.. حين أخذ وقع الخطى يرتفع تدريجيا، شرع القلق ينتابك فأسرعت في المسير.. شعرت بأن الزقاق أصبح أطول مما كنت تعرف، أخذتك رعشة الخوف من المجهول ومما يمكن أن يقع.. وأنت تزيد في إيقاع سيرك من حيث لا تدري، شرع نبض قلبك يخفق وريقك ينضب والعرق يتصبب من جبينك ويغمر كفيك.. تظاهرت بالتوقف لتبحث عن شيء ما بين جوانحك أو في جيوب معطفك، لكن صوت الخطى لم يتجاوزك كما تمنيت.. كان يرتفع من حيث لا ترى أحدا، وكانت هواجسك ووساوسك تتفاقم من حيث لا تكاد تسيطهر عليها.. أحسست بالتوتر والغضب يستحوذان على حركاتك، وبشجاعة لم تعهدها في نفسك التفتت مستعدا للقتال أو الانتحار أو الفرار من الردى..، لكن وتحت وطأة هذا الوضع، وتبعا للضواط السيكولوجية، قد تتصرف - من حيث لا تشعر - بكيفية مخالفة للقانون، مما يجعلك في حاجة لأعذار وفق الضوابط القانونية.
أولا- التحليل السيكولوجي للنازلة
عالج علماء النفس والسيكولوجيا العصبية أشباه هذه النازلة بكثير من الإسهاب، وانتهوا إلى أن الجهاز العصبي في تكوين الإنسان، تحكمه ضوابط سيكولوجية وقانونية ( نسبة للقانون الطبيعي وليس الوضعي )، هي غاية في الدقة والإعجاز، تعمل بنظام شديد التناغم والتركيب والإحكام؛ فمختلف الحركات اللا إرادية المتصلة بأعضاء كثيرة في جسم الإنسان؛ بداية من شعر هامته إلى العين فالرئتين ثم القلب ثم الأمعاء فالصفراء والمتانة إلخ...، كلها تصدر عن ضوابط تتدخل بكيفية تلقائية في ضبط السلوك اليومي لأجهزة الإنسان العصبية والعضلية.
ففي المخ وما يتصل به كالمخيخ والنخاع أو الحبل الشوكي أجهزة عصبية يمكن تسميتها بدفاعات التدخل السريع، تشتغل بعفوية في الأوضاع غير الاعتيادية كما رأينا في نازلتنا الافتراضية؛ نخاعنا الشوكي ( الحبل الشوكي ) - مثلا - يقول العلماء إنه مزود بسلسلة عقدية تنقسم إلى جهازين، أحدهما يدعى الجهاز السمبتاوي، مهمته استنفار آليات الحرب في مواجهة المثيرات العارضة التي تخل بالسير العادي للنظام العصبي، وقد يترتب عن تدخل هذا الجهاز آثار جانبية تؤدي إلى تغيرات فسيولوجية؛ كارتفاع دقات القلب، ونضوب الريق في الفم، واصفرار الوجه، وزيادة ضغط الدم.. إلخ. ناهيك عن القشعريرة والعرق ونحو ذلك. وهذه الآثار تخرج الإنسان عن طوره الطبيعي، وتغير استقراراه السيكولوجي فيصير في حالة من القلق والتوتر أو الخوف والانزعاج، أو غير ذلك من الأعراض الانفعالية التي يطلق عليها علم النفس: التغيرات السيكولوجية ، وهذه التغيرات يمكن أن تدفع الإنسان للقيام بردود أفعال قد لا تحمد عقباها.
وبشكل موازي، يتدخل الجهاز الثاني الذي يسمى الجهاز البارا سمبتاوي، ومهمته معالجة المخلفات السلبية الناجمة عن قيام الجهاز الأول بمهمته؛ وكل ذلك من أجل إعادة التوازن والنظام إلى سائر أعضاء الجسم، وكأنما يتعلق الأمر باستتباب الأمن والنظام، بعد فوضى عرضية واضطرابات مفاجئة، داخل دولة قوية الكيان عظيمة البنيان.
وقد تباينت النظريات العلمية في شأن الجواب عن العلاقة الواصلة بين التغيرات الفسيولوجية والتغيرات السيكولوجية. فذهبت نظرية جيمس لانج ( ويليام جيمس / كارل لانج ) إلى أن التغيرات السيكولوجية هي نتيجة للتغيرات الفسيولوجية أنطلاقا من المعادلة التالية:
![]() |
ويليام جيمس |
![]() |
كارل لانج |
في حين ذهب كانون بارد إلى أن التغيرات الفسيولوجية تأتي مصاحبة للتغيرات السيكولوجية انطلاقا من المعادلة التالية: حدوث المثيرات ⇦ تدخل المهاد لتحليلها وإرسالها إلى المخ لاتخاذ القرار ⇦ استجابة المخ بما يكتنزه من خبرات في الذاكرة الانفعالية ( التغيرات السيكولوجية )، وفي نفس الآن إصدار أوامر للخلايا العضوية والحشوية ( التغيرات الفسيولوجية ).
وحسب كانون بارد فالسعادة والضحك يصدران عن الإنسان في نفس الآن، والحزن والبكاء يصدران عن الإنسان في نفس الآن، والخوف وحفاف الفم مع اصفرار الوجه يصدران كذلك في نفس الأن.
![]() |
كانون بارد |
بيد أن ما يهمنا - نحن - في هذه المقالة هو الإجابة عن التساؤل التالي: هل المثيرات القاهرة التي يتعرض لها الإنسان، وما يترتب عليها من تغيرات تخل بالضوابط الفسيولوجية والسيكولوجية، وما ينجم عنها من ردود أفعال قد تصل - لا قدر الله - إلى درجة القتل أو الانتحار أو التسبب في حوادث السير، هل كل ذلك يشفع للإنسان أن يخرج عن الضوابط القانونية التي تنظم علاقة الإنسان بالآخر؟.
ثانيا- التكييف القانوني للنازلة
تتحدث مواد القانون الجنائي في مجموعة من النصوص عن أوصاف الأفعال المجرمة وعن العقوبات المقررة لها؛ إذ من المعلوم بالضرورة في القواعد الجنائية أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص".
وتتحدث - من جهة أخرى - عن ظروف التشديد والتخفيف المراعاة اعتبارها عند تطبيق مختلف العقوبات المقررة، وهي ظروف خارجة عن أركان الجريمة، وبالتالي فقد تتوفر هذه الظروف مما يجعل القاضي ملزما بالأخذ بها وقد لا تتوفر. وطالما أن التغيرات السيكولوجية هي حالة لا إرادية ينتفي معها القصد الجنائي الذي يتسبب غالبا في قيام ظروف التشديد، فقد ألفينا المشرع الجنائي يأخذ بعين الاعتبار هذه التغيرات ضمن ظروف التخفيف، وتم الاصطلاح عليها فقها وقضاء بالأعذار القانونية المخففة للعقوبة، ويمكن تصنيفها إلى ما يلي:
- 1- صنف الأعذار المتصلة بظروف ذاتية في الشخص نفسه؛ وهي عبارة عن حالات يكون فيها التمييز غائبا بصورة مطلقة كصغر السن والخلل العقلي.
- 2- صنف الأعذار المتصلة بظروف موضوعية خارجة عن الذات؛ وهي عبارة عن حالات يكون فيها التمييز حاضرا، لكن - مع ذلك - يصيب الإرادة الواعية المختارة شلل عارض، فيترتب عن ذلك انحراف في السلوك السليم، بسبب توتر عارم أو غضب طافح أو غير ذلك من الانفعالات المؤدية للاستفزاز.
- 3- صنف الأعذار المتصلة بحالة الدفاع الشرعي، وهي حالة تشبه حالة الاستفزاز من حيث اعتبارهما من أعذار تخفيف العقوبة، لكن أحكامها ليست هي أحكام الاستفزاز، فحالة الدفاع الشرعي لها معيارها الخاص، وقاعدة هذا المعيار هي؛ ضرورة التناسب بين الفعل الذي يهدد الإنسان وبين رد الفعل الذي يصدر عنه؛ إذ يجب أن يكون رد الفعل مناسبا للفعل، على عكس حالة الاستفزاز التي قد يتجاوز فيها رد الفعل حجم الخطر الداهم ( الفعل الأصلي ).
ويلزم أن تكون جميع الأصناف مرافقة لارتكاب الفعل الجرمي؛ لأنها هي التي توفر عذر التخفيف الذي يتعين على القاضي الجنائي أن يقتنع به ليخفض من العقوبة المقررة.
ثالثا- سند التكييف المعتمد في النازلة
ففي الفقرة 3 من المادة 124 من القانون الجنائي نجد المشرع يذهب إلى أنه من الظروف[ المبررة التي تمحو الجريمة، فنصبح أمام لا جتاية ولا جنحة ولا مخالفة: "إذا كانت الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة للدفاع الشرعي عن نفس الفاعل أو غيره أو عن ماله أو مال غيره، بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء"، كما نجد في المادة 125 من نفس القانون ما يلي: "تعتبر الجريمة نتيجة الضرورة الحالة للدفاع الشرعي في الحالتين الآتيتين:1- القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل مسكون أو ملحقاتهما. 2- الجريمة التي ترتكب دفاعا عن نفس الفاعل أو نفس غيره ضد مرتكب السرقة أو النهب بالقوة".
والنصان معا سندان يعززان القول بأن التهديد الذي يستهدف النفوس والأموال، يعتبر من المثيرات العصبية التي تخلق استجابات سيكولوجية قد تترتب عنها أفعال مجرمة قانونا.
وفي المادة 417 من نفس القانون نجد ما يلي: "يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم القتل أو الجرح أو الضرب، إذا ارتكبت نهارا، لدفع تسلق أو كسر سور أو حائط أو مدخل منزل أو بيت مسكون أو أحد ملحقاتهما"؛ وفي المادة 418 نجد ما يلي: "يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم القتل أو الجرح أو الضرب، إذا ارتكبها أحد الزوجين ضد الزوج الآخر وشريكه عند مفاجأتهما متلبسين بجريمة الخيانة الزوجية"، وفي المادة 419 نجد ما يلي: "يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جناية الخصاء، إذا ارتكبت فورا نتيجة هتك عرض إنسان بالقوة"، وفي المادة 420 نجد ما يلي: "يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم الجرح والضرب دون نية القتل، حتى ولو نشأ عنها موت، إذا ارتكبها رب أسرة على أشخاص فاجأهم بمنزله وهم في حالة اتصال جنسي غير مشروع"، وفي المادة 421 "يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم الضرب والجرح إذا ارتكبت ضد شخص بالغ عند مفاجأته متلبسا بهتك أو بمحاولة هتك عرض بعنف أو بدون عنف، على طفل دون الثامنة عشرة. يتوفر نفس العذر في جرائم الضرب والجرح، إذا ارتكبت ضد شخص بالغ عند مفاجأته متلبسا باغتصاب أو بمحاولة اغتصاب".
والملاحظ أن المادة 124 اعتبرت الدفاع الشرعي حالة فرضها خطر محدق، وهذا الخطر هو الباعث على تأجيج شعور المرء بالخوف من هلاك نفسه أو نفس غيره، أو ضياع ماله أو مال غيره، وكل ذلك كفيل بأن يدخل الإنسان في دوامة من الاتفعالات المتباينة التي تجعله يقوم بأي شيء تلافيا للخطر.
كما أن المادة 416 من نفس القانون حين نصت على ما يلي: "يتوفر عذر مخفض للعقوبة، إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب قد ارتكب نتيجة استفزاز ناشئ عن اعتداء بالضرب أو العنف الجسيم على شخص ما"، ميزت بين الأفعال المنتجة للاستفزاز من حيث أنها؛ إما اعتداء بالضرب أو اعتداء بعنف جسيم، ولذلك فالاعتداء كما هو واضح من النص؛ إما أن يكون اعتداء بالضرب وهو ظاهر "الضرب" باليد، صفعا أو لكما أو نحو ذلك، وإما أن يكون بالعنف الجسيم الذي يقع على الشخص، والعنف الجسيم قد يكون بصفة مادية كالتعنيف باليدين دفعا وجذبا، أو التعنيف بالكلام النابي والحركات الفاحشة، أو التعنيف بالحركات الترهيبية كالتلويح بسلاح ونحوه، أو قد يكون بالتعقب والتربص، ومثل ذلك: الخطى التي تتعقب شخصا يسير إلى بيته في ظلمة الليل ( كنازلة الحال )..
والجدير بالذكر أن المشرع المغربي اعتد بعنصر الاستفزاز الذي قد يتعرض له الشخص واعتبره من ظروف التخفيف، شأنه في هذا الاتجاه شأن معظم التشريعات المقارنة. بل إنه فسح للقاضي الجنائي صلاحية التكييف، ومتعه بسلطات تقديرية واسعة، للنظر في مدى توافر عنصر التخفيف من عدم توافره، ولا رقابة عليه في ذلك من قبل محكمة النقض.
علاوة على ذلك ربط المشرع مختلف العقوبات التي قرر لها ظروف تخفيق خاصة، بتغيرات سيكولوجية وفسيواوجية مرئية، غالبا ما تنجم عن مؤثرات خارجية قد يتعرض لها أي شخص، وتجعله يصدر أفعالا لا إرادية تحت تأثير انفعالات سلوكية تتسم بالخطورة، ضد الشخص نفسه ( كالسقوط في هاوية تحت تأثير الفزع / الارتماء أمام سيارة تسير بسرعة تحت تأثير الفرار من خطر محدق )، أو تتسم بالخطورة ضد غيره ممن يحيط به، وقد يترتب عن ذلك ردود أفعال جد قوية موازية لقوة العنصر المؤثر أو متجاوزة له، بحيث تؤدي إلى وقوع الفعل الجرمي وفق المعادلة التي نقترحها كما يلي:
وهكذا يتضح أن المشرع وضع مجموعة ضوابط قانونية ( ضوابط القانون الوضعي ) بكيفية مشابهة للضوابط السيكولوجية ( ضوابط القانون الطبيعي )، لكي يتم إدخال التغيرات السيكولوجية في الاعتبار عند تطبيق العقوبة الجنائية. من هذه الضوابط ما يتصل بردود الأفعال الضارة كحالة الدفاع الشرعي، التي استمد المشرع ضابطها من قواعد الفيزياء، بحيث يجب أن يكون الفعل ورد الفعل متساوين في القوة متناقضين في الاتجاه، ومنها ما يتصل بردود الأفعال المستنفرة كحالة الاستفزاز. وليس الهدف من ذلك هو الإقرار بأن الإنسان كائن قانوني منظم بالابتداع، ولا الإقرار بكينونة القانون الطبيعي في النظام اللاشعوري للإنسان، ولا الإقرار بأن القانون الوضعي إنما يجتهد لخلق أنساق من العدالة توازي وتحاكي الإبداع الإلهي في الكائن البشري، بل الهدف من ذلك - كله - هو إثبات البعد السيكولوجي في الضوابط القانونية التي تسعى لتكون كالضوابط الفسيولوجية والسيكولوجية.
الخاتمة
تضمن القانون كثيرا من صور المحاكاة للقانون الطبيعي من أجل استثمار القواعد الكونية التي تحكم الطبيعة بمختلف تجلياته، الشيء الذي جعل القانون الوضعي نفسه يتسم بأبعاد سيكولوجية تتقرر من خلالها الأبعاد الإنسانية في خصائص القاعدة القانونية، وبالتالي، فكما أنه يوجد في التكوين الفسيولوجي وفي الخلايا العصبية للمخ نظام أودعه الله تعالى في جسم الإنسان، ليكون كائنا قانونيا منظما، فكذلك ابتدع هذا الإنسان لنفسه نظاما قانونيا يستجيب لنفس الكينونة ويحقق نفس الغاية.
عبدالجبار بهم
المرجو من زوارنا الأعزاء مشاركتنا الرأي بالنقد والتوجيه لإثراء النقاش من أجل تنمية ثقافتنا القانونية والأدبية والفنية.